وتأثير الروية فيه ضئيل جدا، ولعله أن يكون معدوما. أما النظم فتأثير الإرادة وتأثير الروية فيه واضح جدا، أوضح من أن نعرفه أو ندل عليه ولعله أن يكون إرادة كله، وروية كله، ومن هنا كانت العاطفة وحرارتها هي كل شيء في الشعر، ولعلي أن أقول إن الشعر عاطفة كله، ومن هنا أيضا كان العقل ونتاجه خطرا جدا على الشعر يفسده أو يكاد يفسده إفسادا لا حد له. وإذا كان الشعر عاطفة فيجب ألا تنظم هذه العاطفة نظما في الكلام، وإنما يجب أن تصور تصويرا فنيا جميلا. وكيف أعد شعرا قول القائل: أنا محزون جدا، أو أنا مسرور جدا، دون أن يصور لي حزنه أو يصور لي سروره؟ بل كيف أعد شاعرا من قال لي في كلام موزون مقفى: إنه محزون أو إنه مسرور؟ يجب إذن أن تكون العاطفة مصورة - ولكن تصوير العاطفة ليس شيئا إذا لم يكن تصويرا فنيا جميلا. وكيف أستطيع أن أطلق على إنسان اسم الشاعر والريشة تضطرب في يده والألوان تختلط في لوحته؛ والفن والجمال يحتضران بين يديه؟ يجب إذن أن تكون العاطفة مصورة تصويرا فنيا جميلا - ولكن التصوير الفني لا يعتمد على العقل والملكات المفكرة، وإنما يعتمد على الخيال والملكات الخالقة المبتكرة. وهل الاستعارة والمجاز والتشبيه إلا مظاهر من مظاهر الخيال؟ وهل هي في الوقت نفسه إلا ألوان من ألوان التصوير الكلامي الفني الجميل؟ فكيف تقول لي إذن: إن الشعر بعضه يعتمد على الواقع، وبعضه يعتمد على الخيال، وبعضه يعتمد على الواقع والخيال جميعا؟ وهل من فرق بين أن تقول لي هذا وبين أن تقول لي: إن الشعر بعضه يعتمد على التصوير وبعضه لا يعتمد عليه؟ وإذا لم يكن الشعر تصويرا فلعمري ماذا يكون؟ أيكون تحليلا كتحليل العلم أم يكون شرحا كشرح الفلسفة؟ إن أبا العلاء - يا صديقي - لم يكن شاعرا في كل ما نظم، ولكنه كان شاعرا حينا وكان ناظما حينا آخر، وكان يجيد مرة ويتورط في الرديء مرة أخرى. وإن أبا الطيب وأبا تمام لم يكونا يحشران الحكم حشرا بين أبيات القصائد، وإنما كانت حكمهما في كثير من الأحيان تكملة للصورة الفنية التي يرسمانها، وأنت إذا فتشت في هذه الحكم رأيتها مبالغات وخيالات دفعت إليها العاطفة المنفعلة دفعا، فلابد في الشعر إذن من عاطفة، ولا بد لهذه العاطفة من تصوير كلامي منظوم، ولا بد لهذا التصوير من جمال فني، ولا بد لهذا الجمال من خيال. فنحن الآن نستطيع أن نفهم أن الكلام المنثور وإن احتوى على عاطفة وتصوير