وجمال فني وخيال ليس شعرا لأنه فقد النظم، وأن نفهم أن الكلام العاطفي المنظوم الذي لا تصوير فيه للعاطفة ليس شعرا لأنه لا تصوير، ومن ثم لا جمال ولا خيال، وأن نفهم أن الأفكار التي توضع في كلام موزون مقفى ليست شعرا لأن الأفكار لا تحتمل التصوير الشعري الجميل وإنما هي محتاجة إلى الدقة وإلى التشدد في الدقة وإلى أن تسمى الأشياء بأسمائها
وأنا أكتب إليك هذا وبين يدي كتاب في الأدب المقارن لزميل من زملائك أساتذة البلاغة والنقد الأدبي، وهو يعرف الأدب - ومنه الشعر طبعا - بأنه فكرة مصورة مزجاة بعاطفة. وإذا صح أن نعرف النثر بأنه فكرة فإنه يستحيل علينا أن نعرف الشعر بأنه فكرة. على أن النثر ليس فكرة مصورة مزجاة بعاطفة، فقد يكون النثر فكرة محضة وقد يكون عاطفة محضة، وقد يكون فكرة مزجاة بعاطفة، وقد يكون عاطفة مزجاة بفكرة، وعلى أن هذه الفكرة ليست مصورة دائما، وإنما قد تكون مصورة مرة، وقد تكون محللة مرة أخرى، وقد تكون مشروحة مرة ثالثة وعلى هذا النحو، وكلها مع هذا نثر، ونثر فني. على أننا لا نحب أن نناقش الأستاذ الفاضل في هذا، وإنما الذي نريد أن نقوله: هو أن الشعر ليس فكرة مصورة مزجاة بعاطفة، وإنما الشعر عاطفة مصورة، لأن نتاج العقل لا يحتمل التصوير الشعري، وإنما هو في حاجة إلى الدقة في التعبير. وماذا يقول الأستاذ الفاضل في هذه العواطف المصورة تصويرا فنيا جميلا، والتي لا تحمل في طياتها فكرة من الأفكار؟ أيسقطها من الأدب لأنها ليست فكرة؟ أم ماذا يصنع بها؟
على أن من الحق أن نقرر أن زميلك الفاضل قد احتاط لنفسه حين عرف الأدب بأنه فكرة مصورة مزجاة بعاطفة، احتاط لنفسه احتياطا فهو يفرق بين الفكرة بمعناها العلمي المحض، والفكرة بمعناها الأدبي، ويرى أن الفرق بينهما هو الفرق بين (العالمية) و (الفردية) أو بين (الموضوعية) و (الذاتية) فالفكرة العلمية حقيقة واقعة تفرض نفسها على الناس جميعا، ولا تفقد صحتها إلا إذا قام البرهان العلمي على فسادها. أما الفكرة الأدبية فليست حقيقة واقعة وإنما هي حقيقة في رأي الشاعر. وقد يراها الناس وهما كاذبا وخيالا باطلا، فهي فردية ذاتية وليست عالمية وموضوعية. هو يريد أن يقول: إن الأدب يصف الخواطر النفسية والعواطف الإنسانية، ولكنه لم يقل هذا فيريح ويستريح، وإنما لف ودار فتعب وأتعب