الناس معه ولم يصب المرمى بعد هذا التعب وهذا الاتعاب، لأن الخواطر النفسية ليست أفكارا وإن وصفها بالذاتية ووصفها بالفردية، وإنما هي خواطر، وخواطر ليس غير. ماذا أقول؟ بل أن الأدب ليس أفكارا ذاتية وأفكارا فردية ليس غير، وإنما هو ولا سيما إذ كان نثرا فنيا أفكار علمية وحقائق واقعة لم تصغ صياغة علمية جافة، وإنما صيغت صياغة أدبية جميلة أبعدتها عن جفاف العلم وجفوته. وكيف أقول إن النثر الفني أفكار ذاتية أو فردية وهو لا يرقى إلا في الأمم التي أوتقت في الحضارة وتقدمت في الحياة العقلية، وأخذت من العلم والفلسفة بنصيب لا بأس به. أنا إذن عاجز عن افهم أن الأدب فكرة مصورة مزجاة بعاطفة. وعاجز أيضا عن أن أفهم هذا الفرق بين الفكرة العلمية والفكرة الأدبية. ذلك لأني إن فهمت أن النثر فكرة فلن أفهم أن الشعر فكرة، وإن فهمت أن الفكرة الأدبية ذاتية وفردية فلن أفهم أن النثر الفني أفكار ذاتية فردية، وإذن فالأستاذ مطالب بأن يوضح لي رأيه في الأدب عامة وفي النثر خاصة وفي الشعر بنوع أخص
على أننا قد ابتسمنا حين رأيناه يكلف نفسه شططا ويرهقها عسرا لإثبات أن الأدب ومنه الشعر فكرة مصورة مزجاة بعاطفة، ولعله كان يلمح أن الشعر ليس فكرة، وإنما هو عاطفة وشعور. فهو يقول إن العاطفة لا توجد وحدها بل توجد مدفوعة بفكرة، أو هي بطبيعتها تنتهي متى تملكت صاحبها إلى فكرة من الأفكار. وأنا أحب أن أناقشه في هذا الكلام، لأن العاطفة قد لا توجدها فكرة من الأفكار وقد لا تنتهي حين تتملك صاحبها إلى فكرة من الأفكار. ومن المحقق أن المخزون لا يفكر في الحزن أولا حتى يحزن، ومن المحقق أيضا أن المخزون إذا تملكه الحزن لا ينتهي حزنه إلى فكرة من الأفكار، وإنما ينتهي به إلى البكاء، وقد ينتهي به إلى العويل.
وأنا أحب أن أترك زميلك الفاضل، فأنا لا أكتب إليه هو، وإنما أكتب إليك أنت. وأكبر ظني أننا الآن قد اتفقنا على تعريف الشعر؛ فهو عاطفة مصورة تصويرا فنيا جميلا في كلام موزون مقفى، وإذا قلنا مصورة تصويرا فنيا جميلا فقد ذكرنا الخيال القومي المبتكر. فنحن إذن لم نعد الحق حين قلنا إن الشعر لغة الحس والشعور والخيال. وهذه الملكات التي تنشأ مع الفرد والجماعة وتنضج وترتقي قبل أن ينضج العقل ويرتقي التفكير. ولم نعد الحق أيضا حين قلنا إن الشعر أول مظهر من مظاهر الفن في الكلام لأنه لغة الحس