والشعور والخيال، وأن النثر آخر مظهر من مظاهر الفن في الكلام لأنه لغة العقل ومظهر التفكير. ولم نعد الحق أيضا حين قلنا إن الشعر جهل وسذاجة لأنه يعتمد على الخيال الذي يمضي حيث يشاء ويصور الأشياء كما يشاء، لا كما تشاء الأشياء أو كما تشاء الطبيعة. وأنت مخطئ يا صديقي إن ظننت أني حين أصف الشعر بالجهل والسذاجة أغض من شأنه أو أحط من قدره. فوصف الشعر بالجهل والسذاجة مدح له وثناء عليه. لأن الشعر الذي يوصف بالعلم والعمق نظيم كله لا أثر فيه للشاعرية ولا للخيال. الشعر جهل وخير له أن يظل جهلا، لأنه يفقد فنيته كلما اترك الخيال المبتكر وجنح إلى الحقائق الواقعة. والشعر سذاجة وخير له أن يظل سذاجة؛ لأنه يفقد فنيته وجماله كلما ترك هذه السذاجة وجنح إلى التفكير والعمق. على أني أحب أن تطمئن ويطمئن الشعراء ويطمئن الذين يحبون الشعر ويشفقون عليه ويجدون شيئا من اللذة الفنية في قراءته وبتغنيه، فلن يستطيع هذا الحديث أن يميت الملكات الشعرية في نفوس الشعراء. ولن يستطيع هذا الحديث أن يقطع السبيل بين عشاق الشعر وبين قراءة الشعر واستظهاره، والتماس اللذة الفنية في قراءته واستظهاره. بل اذهب إلى ابعد من هذا فأزعم لهم أن الشعر إذا اضمحل في مصر في هذا العصر الذي ارتقت فيه الحياة العقلية ارتقاء كبيرا، فإنهم لن يفقدوا اللذة الفنية إذا التمسوها في النثر الفني. ففي هذا النثر يجدون حياة أدبية مشرقة ممتعة مخالفة كل المخالفة لهذه الحياة الشعرية الجاهلة الساذجة.
وأراني قد أطلت عليك، وإن كنت لم أحدثك عن كل ما أريد أن أحدثك عنه فأنا مضطر الآن إلى أن أفرغ من هذا الحديث، وإلى وقت آخر.