منذ بضعة اشهر توفي الفريد دريفوس الضابط اليهودي الفرنسي وبطل القضية الشهيرة التي هزت فرنسا منذ ثلاثين عاماً وكادت تدفعها إلى غمر الحرب الأهلية؛ وقد صدرت عن هذه المأساة القضائية الشهيرة أثناء وقوعها وبعد عشرات من الكتب بمختلف اللغات، وصدرت بمناسبة وفاة بطلها عدة كتب ورسائل جديدة؛ ومن ذلك كتاب صدر أخيراً بقلم الزعيم الاشتراكي الفرنسي ليون بلوم وعنوانه (ذكريات عن القضية) ' أعني قضية دريفوس؛ ومسيو بلوم رئيس الحزب الاشتراكي الفرنسي، وله ولحزبه مكانة قوية في الحياة السياسية والبرلمانية الفرنسية؛ وقد كان لموقفه أثر فعال في التطورات السياسية الأخيرة وفي سقوط وزارة مسيو لافال، ومسيو بلوم فضلاً عن كونه سياسياً وخطيباً كبيراً؛ كاتب كبير أيضاً، وهو يتولى تحرير المقالات السياسية في جريدة (بوبولير) الاشتراكية، وله فيها جولات رنانة، وقد كان مسيو بلوم وقت وقوع مأساة دريفوس فتى في عنفوانه ولكنه كان قد شق طريقه السياسي، وخاض غمار الحوادث السياسية والحزبية التي أثارتها القضية الشهيرة؛ ونحن نعرف الآثار السياسية والاجتماعية والعقلية العميقة التي أحدثها النضال ببين أنصار دريفوس وبين خصومه، وكيف انشطرت الحياة العقلية الفرنسية يومئذ إلى شطرين: أحدهما يتجه إلى تأييد ما يسميه (الحقيقة والعدالة) بتأييد دريفوس، والآخر يتجه إلى تأييد النزعات القومية والعسكرية المغرقة التي أثارت هذه المأساة الشهيرة، ويصور مسيو بلوم في كتابه هذه الحوادث والتطورات تصويراً قوياً، ويشرح لنا البواعث النفسية والعقلية التي كانت تدفع أنصار دريفوس إلى العمل لنصرته وتبرئته، فهؤلاء كما يقول مسيو بلوم كانت تربطهم عواطف قوية هي الثقة في (قوة الحقيقة)، وتدفعهم حماسة مضطرمة إلى ما فوق أنفسهم، ويرى مسيو بلوم شبهاً قوياً بين حادث انهيار شركة بناما ومأساة دريفوس وهي أعظم حوادث هذا العصر، وبين نكبة استافسكي الأخيرة وما تلاها من الحوادث الدموية في فبراير سنة ١٩٣٤؛ فقد كان من ورائها العسكريون والوطنيون دائماً يثأرون لهزيمتهم في انتخابات سنة ١٩٣٢؛ وقد كانت دسائس العسكريين والوطنيين مثار قضية دريفوس، والخلاصة أن مسيو بلوم يقدم إلينا في أثواب اشتراكية واضحة، فإنه