للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[أبو إسحاق الصابي]

للأستاذ عبد العظيم علي قناوي

- ٣ -

لا بد للكاتب الحريص أن يتحرى النواحي التاريخية التي تتصل بالحياة الأدبية عندما يعرض حياة رجل كأبي إسحاق الصابي خبّ في السياسة ووضع، وارتفع بأسبابها ووقع؛ ليتبين هل كان بؤس ذلك الرجل طوال عمره أثر سرف في خطته، ونتيجة سفه في مسلكه؟ أم أن جيله الذي نشأ فيه هو رأس نكباته، وأس ويلاته، حتى صار البؤس على وجهه كتاباً مسطورا، والشقاء في حياته طريقاً مرسوما؛ لذلك أرى وصف الحالة السياسية في العصر الذي عاش فيه موجِزا.

ولد أبو إسحاق في أوائل القرن الرابع الهجري، والخلافة مزعزعة الأركان، واهية البنيان، يتبارى في تقويض دعائمها وتهوين رواسخها أمراء متعددون، وقواد متحفزون، شغلتهم نفوسهم عن دولتهم، فهم يبغون لشخوصهم ملكاً عضودا، ولذواتهم نهوضاً وسعودا، لا يبالون أن يبنوا ذلك على أنقاض منعة الإسلام، أو على انتهاك حرمة السلام؛ وكان المتألبون أجناساً شتى؛ فللترك طوراً القدح المعلى والنصيب الأعلى، وللديلم حيناً القوة والبطش، والمنعة والبأس، والأمة حيال أولئك وهؤلاء كأسراب القطا تتخاطفها البزاة الجارحة، أو كقطعان الحملان تتناهبها الذئاب الضارية.

وفي الثلث الثاني من هذا القرن استتب الأمر قليلاً لآل بويه واطمأن إليهم الملك، فاستولى معز الدولة بن بويه على بغداد بعد أن انتشر فيها الفساد، وطغت عليها الفاقة، واجتاحتها المخمصة؛ حتى هجرها أهلها إلى المدائن والقرى يستمطرون الرحمة، ويبحثون عن الطمأنينة والدعة، وبعد مدة خلع معز الدولة الخليفة المستكفي بالله؛ لاتهامه إياه بدسائس يحوكها ضده، وتدبيرات ينسجها في الخفاء له، وولى بعده أبن عمه المطيع لله، وكان هذا كرة صولجانها معز الدولة، وخلة سيفها آل بويه؛ يأمرون فيأتمر، ويشيرون فيصنع، ويشاءون فينفذ، أما أن يكون له من الأمر شيء، فذلك مالا سبيل إليه. وظل ذلك شأن معز الدولة يدير شئون الأمة متفرداً، ويقضي في سياستها متوحداً، حتى أدركه المنون في منتصف القرن الرابع. فتولى الملك بعده ابنه بختيار، وتلقب بعز الدولة، وقد أشرف على

<<  <  ج:
ص:  >  >>