لم يؤت أحد من أصحاب رسول الله من العلم والفضل مثل ما أوتي علي رضي الله عنه، ولم يرد في حق أحد منهم بالأسانيد الجياد مثلما جاء فيه. وما ظنك برجل خرج هو والنبي من نبعة كريمة واحدة، ونشأ تحت جناح النبوة وتربي في كنفها وتولى رسول الله هدايته وتثقيفه وجعله أولى الناس به فقال له:(أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى؟)، وعلي أنه كان بهذه المكانة فإن لم ينل أحد من الظلم مثل ما ناله، ولا لقي إنسان من المصاعب والمتاعب مثل ما لقي؛ فقد أحاط به ما نغص عليه عيشه وأفسد عليه أمره من أحقاد جاهلية وسخائم أموية وضغائن بدرية وإحن أحدية وغير ذلك. وإذا رجعنا إلى تاريخه ألفيناه قد ضاع بين متشيعين بالغوا في تشيعهم حتى ألهوه، ومبغضين أمعنوا في بغضهم حتى كفروه
فمثل هذا الإمام العظيم المؤتلف في نفسه المختلف في تاريخه كان جديراً ألا يتولى ترجمة حياته ودرس عبقريته إلا مؤرخ حكيم ينفذ إلى نفسيته بفكر ثاقب ونظر نافذ، ويدرس تاريخه بعقل القاضي العادل البصير الذي يبحث ويستقرئ فيرد الأمور إلى أسبابها والأحداث إلى عللها ليخرج هذا التاريخ صحيحاً لا إفراط فيه ولا تفريط، فيعرف الناس منه فضله ويقدرونه قدره ويقبلون على سيرته يدرسونها وينتفعون بها.
ولقد سرنا أن يتولى الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد درس تاريخ هذا الإمام وأن يجعل من هذا التاريخ فريدة في سمط عبقرياته النفيسة سماها (عبقرية الأيام)
قرأنا هذا الكتاب فرأينا كاتبنا الكبير يقول في تقديمه:(في كل ناحية من نواحي النفوس الإنسانية ملتقى بسيرة علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، لأن هذه السيرة تخاطب الإنسان حيثما اتجه إليه الخطاب البليغ من سير الأبطال العظماء وتثير فيه أقوى ما يثيره التاريخ البشري من ضروب العطف ومواقح العبرة والتأمل)، ثم نفذ إلى ما اتصف به الإمام مثل التقوى والزهد، والى ما ورث عن أسرته العربية من النبل والأيد والشجاعة والمروءة والذكاء، وبين الآثار العملية لكل ذلك مع أعدائه وأوليائه على السواء، وانتهى من هذا الفصل إلى (مفتاح شخصيته) ثم تناول هذا المفتاح ليفتح به كل مستغلق من