كان حتماً عليّ أن أسافر بالباخرة التركية (أزمير) من ثغر الإسكندرية في ربيع سنة ١٩٣٥، وإذا تأخرت احتج رياض بك الصديق العزيز مدير المستخدمين، ومحبته لدي فوق كلشيء، فلم يكن هناك بد من أن ألحق قطار الصباح المبكر من محطة صغيرة بالريف المصري لأكون على الباخرة قبل موعد سفرها. وكانت الساعة الرابعة صباحاً حينما استيقظت وخرجت من منزلي في يوم برده محتمل وسماؤه لا تزال نجومها ظاهرة، ورذاذ من بعض المطر الليلي يتساقط من جريد النخل العالي، وكان أمامي أكثر من كيلو متر ونصف سرتها على شريط السكة الحديدية قفزاً على الفلنكات الخشبية، حتى دخلت القرية وأهلها نائمون. وقد ظهر ضوء المحطة من بعيد، فإذا بقهوة عبد القدوس في الشارع الرئيسي تفتح أبوابها وعلى مقعدها قارئ يرتل آيات الذكر الحكيم، ما طللنا على الزاوية إلا وهو يستقبلنا بقوله تعالى (لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق، لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين) تهلل وجهي واستبشرت وفرحت بهذا اللقاء وزال أثر التعب، وعددت هذه نعمة من نعم الله.
ولم يمض على ذلك سوى شهر أو بعض شهر حتى صدر أمر ملكي عينت بمقتضاه قنصلاً لمصر بمدينة القدس على رأس قنصلية عامة يشمل اختصاصها كل أراضي فلسطين وشرق الأردن، فانتقلت من حياة ألفتها في تركيا أو عودت نفسي عليها إلى حياة أكثر نشاطاً وإنتاجاً وحركة وأعمق أثراً، ورددت كل ذلك إلى القارئ الذي استفتحت بوجهه.
شعرت بأن نفسي قد اطمأنت وقنعت وتركزت حينما نسيتني وزارة الخارجية لمدة تزيد على سبع سنوات في أراضي الجمهورية التركية، فغدوت لا أشكو منشيء ولا أطلب الرحمة من أحد، وتحجر قلبي فلم أعد أخاف من الوعيد أو التهديد، أو يحركني التهويش، وكنت أنظر إلى الماضي فأراه قد مرّ بغير تبديل، وإلى المستقبل فأقول بأنه سيمر على وتيرة واحدة كما ذهب الماضي، وأحدث نفسي بأن أرجو لكثيرين من ذوي الأطماع والنفوس الطامحة أن ينتهوا إلى الحالة النفسية التي انتهيت إليها، ذلك لأنني بمضي