في مثل هذا الأسبوع من عام ١٩٣٢ وأنا في دار السلام، هبط على برق الأثير هبوط الملك البشير على زكريا الواهن اليائس. بشرني بأن أسمي قد اشترك، ووجودي قد ازدوج، وعمري قد امتد، وأصلي قد تفرع! فأخذني شعور لا عهد لي بمثله؛ لا أصفه لأنه اعمق من الإدراك، ولا أنساه لأنه أوسع من الذاكرة. هو شعور خليط مبهم؛ لا هو حماسة، ولا هو نشوة، ولا هو جذل، ولا هو غبطة؛ وإنما هو كل أولئك وشيء آخر لا أدريه، لون مشاهد الطبيعة بألوان الأمل، وعطر نسائم (دجلة) بروائح الجنة، وزين مغاني الكرخ باوشية السحر. فخرجت إلى بساتين (الصالحية) وفي إهابي المشبوب رجل أخر، يحيا لأنه يحب الحياة، ويعمل لأنه يريد العمل، ويزهى لأنه يسعى لآسرة، مررت بالأطفال الذين كنت أراهم كل يوم، فبدت لي في قسماتهم وبسماتهم معان جديدة. لم يعودوا شقاء الوالدين وهم الحياة كما كنت اشعر، وإنما أصبحوا كطفلي بهجة الوجود وراحة المكدود ورجاء المستقبل؛ ثم وجدتني آنس بكل أب، وأسكن إلى كل أم، واشعر كما يشعر كل والد بحمل رخي رضي يثقل رويداً رويداً على البال المطمئن الوادع!!
عدت إلى مصر فرأيتني ارسخ في الوطنية لأني غدوت أصلاً من أصولها، وأعز في القرابة لأني صرت فصلاً من فصولها؛ ثم تجددت الأفراح، وتسابقت التهاني، وتنافست الهدايا، وتعاقبت المآدب، وغرقت الدار الكئيبة في فيض من البهجة، ورقصت الروضة الموحشة على الحان البلبل، ورفرفت السعادة الهشة على مهد الوليد
وكان العش الآمن الغار يعلن في كل رابع عشر من شهر يناير ذكره للنعمة وشكره لله؛ فيرف للأصدقاء بالأنس، ويخف للفقراء بالصدقة. وتتفتح مصاريعه الضاحكة لتهنئات الصحاب ودعوات الأحبة. ويخرج المرموق المعشوق صاحب العيد في زينته وبهجته كالسوسنة الغضة، يقابل مهنئيه، ويتقبل هداياه، ويستعرض لعبه، ويشع على الحفل البهيج من روحه الجذاب، وحسنه الفاتن، وذكائه الباكر، إشعاعاً من وراء المعلوم لا يدركه إلا الأب الحنون وإلا الأعزب الشاعر
حنانيك يا رباه! أكل ذلك اصبح اليوم ذكرى؟ أغاية السعادة في الأرض أن تنقلب وحشة في النفس وظلمة في العين وحسرة في الفؤاد؟ لا يزال صوته الصافي الجميل يرن في شعوري كله: فأنا اسمعه يقول ويده الصغيرة تجذب يدي: (يالله نشترى خروف عيدي يا