فبادرت أعدو يكاد ينشق عليّ جلدي من شدة العدو، فقد أكلت مني السن وتعرقتني أنياب الكبر؛ فما جاوزت روضة قصر أمير المؤمنين حتى تقطعت أنفاسي من الجهد، وتلقاني الآذن: ما عدا بك يا أبا الخطاب؟ فقلت: إِيَذَن لي على أمير المؤمنين (هو الوليد بن عبد الملك)، فقد نزل بنا ما لا رد له، وتبعته. . . ووالله إن فرائصي لترعد وكأني محموم قد جرت عليه هبّة ريح باردة. . . وغاب الآذن: فما هو إلا أمير المؤمنين يستقبلني كالفزع، وقد خرج إلي فقال: أي شيء هو يا ابن أبي ربيعة؟
قلت: والله ما ادري يا أمير المؤمنين، فما كان إلا ومحمد بن عروة (بن الزبير) تحت سنابكها، فما زالت تضربه بقوائمها، وما أدركناه إلا وقد تهشم وجهه وتحطمت أضلاعه!!. . .
وكأنما فارقتني الروح، فما أشعر إلا وأمير المؤمنين قائم على رأسي ينضح الماء على وجهي، وقد قُرِّبت إلى مخمرةٌ يسطع منها ريح المندل الرطب، فلما أفقت ورجعت إلي روحي سألني أمير المؤمنين أن أقص عليه الخبر. . .
قلت: خرجنا أنا ومحمد بن عروة وهشام أخوه نريد منزلنا من قصر أمير المؤمنين، نرجو أن نتخفف من بعض ثيابنا، فقد أنهكنا الحرّ. . . فنظر محمد إلى مرآة من فضة مُجلوّةٍ معلقة في البيت، ثم قال: أتذكر يا أبا الخطاب حجتنا تلك؟ قلت: أيهن؟ فقد أكثرت وعمك الحج، فقال: سرعان ما نسي الشيخ، لقد كبرت والله يا أبا الخطاب! وقد حدثني أبي بالذي كان منك، فقد كنت تسايره وتحادثه، فلم تلبث أن سألته: وأبن زين المواكب يا أبا عبد الله؟ فقال لك: أمامك، فأردت تركض راحلتك تطلبني، فقال لك: يا أبا الخطاب، أو لسنا أكفاءً كراماً لمحادثتك، ونحن أولى أن تسايرنا، فقلت له: بلى، بأبي أنت وأمي يا أبا عبد الله! ولكني مغرى بهذا الجمال أتبعه حيث كان، ثم عدلت براحلتك وضربتها وأقبلت إلي، وجعل أبي يتعجب منك ويضحك، وقد استنار وجهه. . . إحدى سوآتك هي والله يا أبا الخطاب. .