مما لا جدال فيه أن الصداقة ضرب من لوازم الحياة الضرورية التي يندر أن يستغني عنها إنسان. فهي كالغذاء للجسد أو العلاج للمريض. ولكل امرئ في هذا المجتمع صديق يأوي إليه في وقت الضيق، أو في ساعة السرور، فيقتسمان الفرح والترح، ويشتركان في السراء والضراء. والحياة دون صديق تبدو جافة قاتمة، لا أثر فيها للعواطف الروحية السامية التي تربط القلب بالقلب وتصل الروح بالروح.
هذا الضرب من الصداقة نجده بين عامة الناس، إذ لا بد لكل فرد من صديق. ولكن فريقاً من الناس في كل بلد وقطر، يصاحب الكتب ويصادق الأدباء، سواء منهم من كان في عالم الفناء الآجل، أو في عالم البقاء الأبدي. هذا الفريق يتألف من طبقة المتأدبين والأدباء، والكتاب والشعراء، ويضاف إلى هؤلاء طبقة القراء المولعين.
منذ سنوات عدة بدأت أشعر بميل شديد إلى أدب القصة، وأخذت أهيم بهذا الفن الجميل هُياماً عظيماً، فصرت ألتهم ما يقع بين يدي من روايات وأقاصيص، وأبحث عما في الصحف والمجلات الكبيرة من رائع القصص. وبينما كنت ذات يوم أقلَّب بصري في إحدى المجلات عثرت بقصة مترجمة عن كاتب لم أقرأ له شيئاً من قبل. فجلست أقرأ وأقرأ. . . فلما انتهيت وجدتُني في عاَلم جديد من أدب القصة لم أعرفه قبل ذلك اليوم، عالم كله سحر وعطر، وفن وجمال. وكنت أشعر وأنا أقرأ تلك القصة بأنها تتدفق بالذوق الفني الرائع، وأنها قطعة تفيض بألوان بارعة التنسيق من الحياة. ومكثت بعد ذلك برهة أستعيد حوادث القصة، وأسلوب عَرضها الأنيق، وحوارها الطريف؛ فما نهضت من مجلسي يومذاك إلا لأذهب إلى إحدى المكتبات وأقتني بعض أقاصيص هذا الكاتب، الذي لم يكن سوى (جي دي موبَسَّان)
منذ ذلك اليوم أصبح موباسان صديقاً لي حميماً، لا أجد له مؤلفاً إلا اشتريته، ولا يُكتب عنه