شيء إلا قرأته، وهو يجزيني عن هذا الإخلاص خير الجزاء؛ ففي كل مرة أجلس إلى قصة من قصصه أو رواية من رواياته، يكشف لي عن نواح من فنه وعبقريته تزيد في حبي له وتضاعف من إعجابي به.
وإذا نحن حاولنا أن نكشف القناع عن سر عبقرية موبسان وفنه، لم نستطع أن نُرجع السبب إلا إلى أمرين اثنين: الأول نبوغ فطري واستعداد طبيعي. والثاني تتلمذه على الروائي العظيم (غوستاف فلوبير) مدة سبع سنوات، لَّقنه في خلالها أصول الفن الحديث وقواعده العلمية الصحيحة، حتى أن موبسان كتب بعد ذلك يقول:(لقد اشتغلت مع فلوبير سبع سنوات لم أنشر خلالها سطراً. وفي هذه السنوات السبع أعطاني معلومات أدبية لم أحصل عليها بعد أربعين عاماً من التجارب)
والحق أن تتلمذ موبسان على فلوبير طوال هذه الأعوام صقل مواهبه وسدد خطاه، وراضه على التأمل الطويل والتفكير الكثير في سبيل الفن وحده. وكان فلوبير خلال ذلك يأخذ بيد تلميذه في طريق السمو والإبداع، ويقدم له خالص النصح، وكان يقول له:(ليست الموهبة إلا صبراً طويلاً. إنها تقتضي تأملاً كافياً لكل ما يراد التعبير عنه، مع كثير من الانتباه، كي نصل إلى وصف منظر لم يره أحد ولم يصفه. لا يزال في كل مكان أشياء لم تُكشف بعد؛ والسبب في ذلك أننا معتادون عدم استعمال نظرنا الخاص في التفكير والتأمل، إلا ممزوجاً بما قاله الأقدمون. إن في أصغر شيء وأقله قيمة قليلاً من المجهول، فلنبحث عنه. ولكي نصف مثلاً ناراً تتأجج أو شجرة في سهل، يجب علينا أن نطيل الوقوف أمام تلك النار أو هذه الشجرة حتى نستطيع أن نخرج إلى الناس بوصف لا يشبه أي وصف لأية شجرة أو أية نار، بهذا يستطيع الكاتب أن يكون مبتكراً مجدداً)
ويقول موبسان معلقاً على ذلك:
(وعند ما بسط فلوبير أمامي هذه الحقيقة التي تقول إنه لا يوجد في الكون كله ذرتان من الرمل، أو ذبابتان أو يدان أو أنفان متشابهين كل التشابه. أخذ يجبرني على التعبير في بضع جمل عن كائن أو شيء يميزه بوضوح من كل كائن وكل شيء من النوع ذاته والجنس نفسه)
ولقد قسا صاحب (مدام بوفاري) على تلميذه قسوة شديدة فكان موبسان يكتب خلال تلمذته