تتخذ شخصية طارق بن زياد فاتح الأندلس مكانها بين عظماء الفاتحين، لا في التاريخ الإسلامي وحده، ولكن في تاريخ الأمم القديمة كلها؛ وتعتبر موقعة شذونه أو (مدينا سدونيا) من أعظم الوقائع الحاسمة في تاريخ الإنسانية، ففيها افتتح العرب أسبانيا وغنموا ملك القوط، وشادوا صرح تلك الدولة الأندلسية الزاهرة التي لبثت قروناً تبهر أمم الغرب بقوتها وفخامتها وراع حضارتها وفنونها. بيد أنه من الغريب أن شخصية الفاتح العظيم - طارق - بينما تبدو في بعض نواحيها وضاءة مشرقة، إذا بها تبدو في البعض الآخر خفية يكتنفها الغموض؛ فالرواية الإسلامية تختلف حول نشأة طارق وحول نسبته وجنسيته، وتكاد تسدل على مصيره بعد الفتح ستاراً من الصمت والنسيان
ولسنا نعرض في هذا البحث لشخصية طارق أو تاريخه أو اختلاف الرواية في شأنه، ولكنا نعرض لواقعة ترتبط باسمه، وقد يغلب عليها لون الأسطورة، وإن كانت مع ذلك تعرض علينا في لون التاريخ الحق، تلك هي واقعة إحراق السفن التي نقل عليها طارق جيشه من الشاطئ الأفريقي إلى شاطئ الأندلس. ونحن نعرف أن فتح الأندلس قد تم بدعوة من الكونت يوليان القوطي حاكم سبتة والمضيق لخصومة سياسية وشخصية بينه وبين رودريك (لذريق) ملك القوط، وأنه عاون العرب بخدماته ونصحه، وأنه هو الذي قدم السفن التي عبر العرب عليها إلى الأندلس في بعثتهم الاستكشافية الأولى بقادة طريف بن مالك (رمضان سنة ٩١) ثم في حملتهم الغازية بقيادة طارق بن زياد (رجب سنة ٩٢ - أبريل ٧١١م). وهنا تذكر الرواية أن طارقاً ما كاد يعبر بجيشه إلى أسبانيا حتى أمر بإحراق السفن التي عبر عليها جيشه وذلك لكي يدفع جنده إلى الاستبسال أوالموت أو الظفر، ويقطع عليهم كل فكرة في التخاذل أو الارتداد. فما بلغ هذه الرواية من الصحة؟ إن جميع الروايات الإسلامية التي تحدثنا عن فتح الأندلس لا تذكر شيئاً عن هذه الواقعة، ولا تذكرها سوى بعض الروايات النصرانية المعاصرة أو المتأخرة؛ ولا تذكرها الرواية الإسلامية إلا في موطن واحدة، فقد ذكر الشريف الإدريسي في معجمه الجغرافي الشهير (نزهة المشتاق)