عند الكلام على جغرافية الأندلس أن طارقاً أحرق سفنه بعد العبور بجيشه إلى الأندلس؛ وقد نقلت الروايات النصرانية المتأخرة هذه الرواية عن الإدريسي فيما يرجح؛ وفيما عدا ذلك فان جميع الروايات الإسلامية تمر عليها بالصمت المطبق
وهنالك وجه آخر لتأييد هذه الرواية هو الخطاب الذي يقال إن طارقاً ألقاه في جنده قبيل نشوب الموقعة الحاسمة بينه وبين القوط؛ ونحن نعرف هذا الخطاب الشهير الذي مازال يحفظه الطلاب كنموذج من إبداع نماذج البلاغة العربية؛ فقد أستهله طارق بقوله:(أيها الناس؛ أين المفر؟ البحر من ورائكم والعدو أمامكم؛ وليس لكم والله إلا الصدق والصبر. . .) وفي ذلك ما يمكن أن يحمل على أن الجيش الفاتح قد جرد من وسائل الارتداد والرجعة إلى الشاطئ الأفريقي، أو بعبارة أخرى قد جرد من السفن التي حملته في عرض البحر إلى أسبانيا؛ ولكنا نلاحظ من جهة أخرى أن هذا الخطاب الحربي الشهير الذي تنسبه الرواية الإسلامية المتأخرة إلى طارق، لم يرد في روايات المؤرخين المتقدمين؛ فمثلاً لم يذكره ابن عبد الحكم والبلاذري وهما أقدم رواة الفتوحات الإسلامية؛ وذكره ابن قتيبة، ولم يشر إليه ابن الأثير وابن خلدون، ونقله المقري عن مؤرخ لم يذكر أسمه، وهو على العموم أكثر ظهوراً في كتب المؤرخين والأدباء المتأخرين؛ وعلى ذلك فليس في وسعنا أن نتخذه دليلاً مادياً على واقعة إحراق السفن؛ ولو صح أن طارقاً قد ألقى مثل هذا الخطاب فعلاً - وهو ما نراه موضع الشك - فانه يمكن تفسيره بأن السفن التي عبر عليها طارق وجيشه كانت ملكاً للكونت يوليان القوطي، ولم تكن سوى أربع، وقد عبر الجيش الإسلامي عليها تباعاً في مرات عدة، فمن المعقول إذا أن يعتبر طارق أنه في حالة الهزيمة لم تكن لديه وسيلة سريعة للارتداد وعبور البحر إلى إفريقية
على أنا نستطيع مع ذلك أن نأخذ برواية الشريف الإدريسي؛ وإذا كان احتراق السفن على هذا النحو لقطع الرجعة والارتداد على جيش فاتح عمل بطولة رائع، فانه لما يتفق مع بطولة فاتح الأندلس، وليس موقف قيصر في غالباً أو موقف بونابارت في إيطاليا فيما بعد بأدعى للإعجاب من موقف طارق في سهل شريش (مكان اللقاء الحاسم)
والظاهر أن إقدام الغزاة على إحراق السفن على هذا النحو الذي تنسبه الرواية لفاتح الأندلس نوع من أساطير البطولة الخارقة التي ترجع إلى أقدم عصور التاريخ؛ ففي كثير