كتبت إليّ تسأل عن المراد من (الذاتية الأدبية) وهي كلمة يكثر ورودها على سنان قلمي، ثم تدعوني إلى رسم المنهاج، إن كان لها منهاج
وأجيب بأن الذاتية الأدبية هي أن تكون أنت أنت فيما تكتب وفيما تقول، بحيث يشعر من يقرأ لك، أو يستمع إليك، أنك تنقل عن قلبك وضميرك، وأن لك خصائص ذاتية لا يزاحمك فيها سواك، وأنك لو نشرت مقالاً بدون إمضاء لتم عليك الروح قبل أن يتم عليك الأسلوب، فإن الأساليب قد تتشابه في كثير من الأحايين تشابهاً يسمح بإضافة آثار كاتب إلى كاتب، أو شاعر إلى شاعر، أو مؤلف إلى مؤلف، عند طيّ الأسماء
أما التشابه في الأرواح فهو نادر الوجود، ولعله لا يقع إلا عند ضعف الأرواح، كما تتشابه الغرائز أو تتماثل عند صغار الطير والحيوان
ولتوضيح هذه النظرية أذكرك بمعلقة امرئ القيس ومعلقة لبيد، فمعلقة امرئ القيس يمكن أن تضاف إلى غيره من الشعراء، ويمكن لأي شاعر أن ينظم مثلها بلا عناء، أما معلقة لبيد فهي شعر لبيد، ولن يحاكيه فيها شاعر، ولو قضى العمر في رياضة النفس على الاقتداء
وبفهم هذه النظرية تتضح مشكلةٌ عجز عن حلها من تحدثوا عن المتحول من الشعر الجاهلي، لأنهم يبنون أحكامهم على الأساليب لا على الأرواح؛ فرقّة الأسلوب هي عندهم خَصيصة حضرية، وجزالة الأسلوب خَصيصة بدوية، وعلى هذا يقاس، كما صنع سعادة الدكتور طه بك حسين
الروح هو الأصل في تقدير القيم الأدبية، وعن الروح يتفرع الأسلوب. ولو شئت لقلت إن لكل كاتب أساليب تختلف باختلاف مقامات الإنشاء، كما تختلف نظرات العيون باختلاف مقامات الحديث، وكما تختلف نبرات الأصوات لمثل تلك الأسباب، ثم يبقى الروح الذي يدل على صاحبه في جميع الحالات بلا استثناء
فانظر أين أنت من هذه الحدود: أينم عليك روحك؟ أينم عليك أسلوبك؟ أتنم عليك التبعية