للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[فضيلة. . .!]

للأستاذ الأديب عباسي

والفضائل كالرجال: منها المائع المسترخي، ومنها الشديد الصلب الذي لا يثنى، ومنها المقرور مفرط القر، ومنها المشبوب مفرط الحر، ومنها مرهف الحد نافذ الشفرة، ومنها كثير الفلول كليل السطوة، ومنها الذليل المستعبد ومنها الأبي المستكبر، ومنها الواضح البين، ومنها الذي ليس له أول ولا آخر. وتستطيع أن تمضي بالمقارنة إلى آخر ما يحضرك من صور للرجال ونماذج. ولا عبرة بما يوحيه اللفظ من معاني القداسة والاشتقاق من الفضل. فأنت تعرف جيدا من الفضائل كالرجال أيضا تخضع لملابسات الحياة وتعنو الزمن، وتنال من دهرها تقديرا عادلا حينا، وتقديرا جائرا أحيانا أخرى.

وفي عصور النضال العنيف والجهاد المحرج يقسر الناس على التفطن إلى جميع مناحي الحياة دقيقها وجليلها ويحملون على تناول موادها تناولا سريعا مرتجلا لا إشفاق فيه - غالبا - على ماضي تليد ولا مستقبل موموق بعيد والذي يربح المعركة للقوم من هذه المواد هو الذي لاشك يربح البقاء والخلود.

ولعل الشرق في هذا الوقت الحافل بجميع ضروب النزاع المليء بأقرب الاحتمالات وابعدها، هو احوج ما يكون إلى أن يكر راجعا إلى هذا الكتاب القديم الذي دونت فيه فضائلنا، ويطمس بالقلم العريض هذه الأسطر المجرمة التي تسيء إلى رجولة الشرقي، وتنقص من حيويته الفردية ثم حيويته الاجتماعية، وعملية التنقيح في الاخلاق والفضائل هذه عملية قديمة خبرها اليونان والرومان والعرب وغيرهم، وخبروا أخيرها اصدق مختبر. ولعل اشد عصور هذه الأمم سوادا هي العصور التي كان فيها الرقيب في غفوة عنها، فشبت بعض هذه الفضائل من رقدتها ونشبت تنهش في الحياة وتوالي تمزيقها إلى ان أحالتها في النهاية رسما لجسم، وبقية من جثة. والحياء - كما تعلم - من اقدم ما خط في كتابنا الأخلاقي - الحياء لا بمعنى صرف النظر وتحويل الفكر عن الشهوات والملاذ الدنيئة - بل الحياء بمعنى إعطائك سيفك لخصمك ليقتلك به، أو الارتماء على فجوة بين حائطين ليعبر عليك إلى غايته من هو دونك، أو السير وراء الناس من بعد تلتقط بقايا الزاد وفتات الأطعمة.

<<  <  ج:
ص:  >  >>