أنت يا أخي أول أديب في مصر العظيمة رفعه الأدب المحض إلى منصب الوزير ورتبة الباشا. وأقول (الأدب المحض) وإن كنت لا أنكر أن لثقافتك وكياستك وسياستك أثراً ظاهراً في هذا الحادث الأدبي الخطير؛ لأن الأدب بمعناه الأصح لا يكمل إلا بهذه الصفات، ولأن أدبك على الأخص مثال الأدب الكامل الذي يقوم على ألزم الخصائص للإنسان وهي سراوة الخلق وذكاء القريحة وسداد الذهن وسعة الثقافة. وإذن لا نستطيع أن نحلل تركيبك الأدبي إلى فقيه وأديب وصحفي وسياسي، مادام أسلوبك الفكري مزيجا من أولئك جميعاً. فإذا كان غيرك قد وصل بالأدب من غير خلق، أو بالصحافة من غير أدب، أو بالسياسة من غير صحافة، فإنك لم تصل إلا بهذا الأدب الشامل الذي يشرق فيه وميض الروح ويسيطر عليه نبل النفس. لذلك نعد بلوغك هذه الغاية من المجد انتصاراً للأدب المجاهد، وترضية للقلم المجهود، وتمكيناً للفكر الجميل أن يؤدي رسالته في عالم أوسع وعلى طريق أسد؛ ولذلك نجعلك من بين الوزراء الصلة الطبيعية بيننا وبين أولي الأمر؛ فقد قطعوا أسبانيا الواصلة، وسفهوا حقوقنا المعلومة، واعتقدوا أننا حلىً تزين ولا تنفع، ودمىً توجد ولا تعيش
فمن غيرك اليوم يا باشا يستطيع أن يسمعهم أن الأدباء بعد انقطاع الوحي هم رسل الله وكتبه: في أقلامهم أقباس الهداية، وفي أفواههم أبواق اليقظة، وفي أيمانهم مفاتح الخلود؟
من غيرك اليوم يا باشا يستطيع أن يقنعهم أن الشعب بغير صوتهم لا ينهض، والجيش بغير روحهم لا ينتصر، والرأي بغير منطقهم لا يجتمع، والحكومة بغير سلطانهم لا تحكم؟
من غيرك يا باشا يستطيع اليوم أن يقول لولاة الأمر، لعيشه فيهم وقربه منهم، إن الأدباء هم الذين ينشئون الصحف للجمهور، ويؤلفون الكتب للقراء، ويدبجون الخطب للزعماء، ويصوغون الشعر للوزراء، ويكتبون التاريخ للملوك؟
الأدب يا باشا كما تعلم هو شعاع الحس اللطيف، وعطر النفس الزكية، وزاد الإنسانية الدائبة من أفكار السلف وتجارب الماضي
والأدباء يا باشا كما تعلم هم أوصياء الخليقة على تراثها العقلي، يحفظونه ويزيدونه، ويتصرفون فيه، ويجعلون منه مرشداً للحائر وقصداً للجائز وسنداً للضعيف
وقد عرفت الأمم الرشيدة فضل الأدب والأدباء فأطاعوهم كالقادة، واتبعوهم كالرسل، ورفعوهم كالمصابيح. ولكن الأدب في مصر كما تعلم يا باشا لا يزال فريسة الإهمال