والفوضى: يكابد طغيان السياسة في استسلام، ويجاهد سلطان الجهالة في يأس، ويقاسي مضض الحرمان في ضراعة؛ وأولوا الأمر يقابلون جهده بالاستهانة، ويكافئون بره بالعقوق، ويستغلون سلطانه في الصحف وعلى المنابر، ثم لا يدخلونه في الحساب يوم الغنيمة. والأدباء في مصر كما تعلم يا باشا لا ينفكون يؤدون رسالة الروح المضنية في بسالة وصبر، وقرائحهم المجهودة تنضح بالمداد كما تنضح الجباه الناصبة بالعرق والصدور المحاربة بالدم؛ ثم لا يلقون ممن يحملون لهم الشعلة إلا ما لقي أصحاب الرسالات من الكفران الغادر والخذلان المهين. وما حال الأدب في الأمة الأمية إلا كحال النبوة في الأمة المشركة، إذا لم يكن له سند من الله وعون من الحكومة ذهب ذهاب المصباح في عواصف البيد المظلمة
فالأديب المضطر إنما يشقى للقوت لا للفن، ويسعى للحياة لا للمجد، وينتج للحاضر لا للمستقبل؛ وإذن لا يكون الأدب إلا كما ترى: بخس في الكيف، ونقص في الكم، وشعوذة في الوسيلة، وإسفاف في الغاية
كل ذلك علمته وكابدته وشكوته أيام كنت معنا في الطريق المزدحم الصاخب، تعرض على فقراء المعرفة غذاء العقل والروح من عصارة مخك وقلبك، فيعرضون عنك ويأبون إلا خَنْزَرةً تسوف التراب وتلغ في القذر.
فماذا أعددت يا باشا لهذه الأعصاب المحترقة التي لا تبغي من الناس إلا أن يستفيدوا من احتراقها النور والحرارة؟
لا نريد أن نصف لك العقدة ولا أن نقترح عليك الحل، فإن ذلك بجانب علمك وخبرتك وتجاربك أنفال وفضول. وقصارى ما نرتجيه أن تبسط الحكومة على الأدب ظل الحماية، فما يستطيع لضعف دولته وجهل رعيته أن يستقل. نريد ألا تدعوه لأهواء الجمهور ودوافع الحاجة، فإن في إخضاع الأدب لشهوات الناس وضرورات العيش إفساداً لملكة الذوق وتكديراً لنقاء الضمير وتشويهاً لجمال الوحي.
ليس الأدب من المهانة بحيث تتخطاه رغبة الأمة. وليس الأدباء من الكثرة بحيث تضيق بهم معونة الحكومة؛ ولكن السياسة الحزبية في البلد الجاهل تقلب الأوضاع، وتغير المقاييس، وتعامل كل فرد بحسب ما له من الدالة، وتقدر كل شيء بمقدار ما فيه من