للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[المستقبل وأسرار الوجود]

للأستاذ عبد الجليل السيد حسن

المستقبل هو أمل من لا أمل له، وعزاء من لا عزاء له؛ هو رجاء اليائسين، واللقمة التي يعيش عليها الفاشلون والمحرومون. هو الحبل الذي يتشبث به الغرقى في بحار الحياة ويرونه سببا للنجاة بينما هم في اللجنة يغوصون، وإلى الهلاك يسرعون، فكل من لم ينل من الحياة مراده ولا رغائبه، واحتاطه اليأس وكفنه بالحزن والألم ليشيعه إلى القبر، كان شريان الحياة الذي ينبض فيه ويمزق له أكفانه: هو المستقبل. فيندفع إلى الحياة ليعيش على الأمل والتعلات، وينتظر استعادة ما فات، واستحضار ما ستدبر. فالمستقبل هو خيط الحياة الذي بانقطاعه تنقطع الحياة؛ فلو أن هذا الذي فانه ما يريد ويأمل، وهذا الذي صدمته الحياة في نفسه وماله وولده، لو أن هذا أو ذاك: تاه عنهما وجود المستقبل وغفلا عنه لبخع كلاهما نفسه، وقضى على حياته بيديه، ودلف بنفسه إلى القبر يحفره. ولكنه يرى بتعلل بالمستقبل، يحقق له أمله الضائع، ويشفى له مرضه المستعصي، ويعوضه عن ماله الذي فقد وولده الذي احتسب. ويتضح لك هذا إذا صورت لنفسك ما ستكون عليه حالة هذا الذي فقد الأمل في المستقبل لأن الأسباب قد تقطعت به، لاشك أنك ستراه بمنظارك أول الأمر حائرا يبحث متلهفا عن بصيص ينظر منه سببا وإن تفه يرجوه، وفرجة وإن ضيقة يطل منها على المستقبل، فإذا لم يقطع على بغيته، فلا أخالك إلا ملقيا بمنظارك لتجرى نحوه لتوقفه عن قتل نفسه.

المستقبل هو الوجود كله، والزمان كله. وليس هناك من شيء غير المستقبل. أليس الوجود امتدادا لا يعرف منتهاه ولا أوله، وما هو هذا الامتداد؟ إنه لا يخرج عن المستقبل فليس هناك شيء اسمه الماضي، ولا شيء اسمه الحاضر، بل هناك شيء واحد اسمه المستقبل، المستقبل فقط. وإذن فما هو الوجود.؟ أليس إلا مستقبلا قد نسج، ومستقبلا ينسج، ومستقبلا ينتظر النسج؟ أما المستقبل الذي نسج فهو ما نسميه الماضى، والمستقبل الذي ينسج فهو ما نسميه الحاضر. فالأمر لا يعدو قسمة لا حقيقة لها لهذا التيار الساري، تيار الوجود الذي يرتكز في المستقبل. فتيار الزمان هو المستقبل وهو النهر الذي قيه الوجود والكائنات. فالنقطة التي تسبح فيها هذه اللحظة، تسميها الحاضر، والنقطة التي تعدتها تسميها الماضى،

<<  <  ج:
ص:  >  >>