تلقيت نعي الملك النبيل علي بن الحسين كما أتلقى نعي قريب؛ فقد كان رضوان اله عليه مثال الفطرة العربية النقية: يقبل على زائره بأنسه، ويمكن لجليسه من نفسه، ويزيل الفوارق بين محدثه وبين شهصه، حتى يصدر عنه الوارد عليه وفي ذهنه صورة من جلاله لا تحول، وفي قلبه عاطفة من حبه لا تزول، وفي نفسه أثر عن ذاته لا يعفو. لا يُلقى في روعك حين تلقاه طوح الزعيم، ولا جفاء القائد، ولا دهاء السياسي، ولا سورة المَلِك، وإنما تجد في خلائقه فوحة المجد، وتقرأ في ملامحه عنوان الطيبة، وتعرف في حديثه لهجة السيادة، وتذكر في نبرات صوته ولحظات عينه ولفتات ذهنه ذلك الروح القوي الذي انبث في موات الوجود من بني هاشم!
نعي الناعي فيصلاً فقال الناس بطلٌ من أبطال العالم قضى، ونعى الناعي علياً فقال العرب سيد من سادات العروبة خلا؛ لأن فيصلاً حكم في شروق مُلك عائد، فكان عزمه لا تسعها قدرة، وفكرة لا يحصرها أفق، وطموحاً لا يحده غاية؛ ولأن علياً حكم في غروب مُلك بائد، فكان أمراً لا يمضيه سلاح، وأملا لا ينهضه جناح، وصلاحاً لا تؤاتيه فرصة؛ ثم كان مصير الرجلين مصير خلقين مختلفين: خلق اتسع لخُدَع السياسة، وشُبه الحكم، وأهواء النفوس، وخلق انحصر بين حدود الشرف الموروث، وسنن الدين المتبع، وتقاليد العرب المحتومة
كان الملك علي وهو أمير المدينة أو ولي العهد أو خليفة الحسين، مثل السيد الكريم والأمير السمح والملك المؤمل، ولكن موجة (الاخوان) كانت قد دفعت بحطام الحين إلى شواطئ جدة، فلم يستطع الملك الجديد أن يستمسك به في مهب الرياح الهوج ومضطرب الموج الثائر، فانتزع من تاجه المقدس مفاتيح الحرمين ثم وضعهما في يد الفاتح ونجا علي (الرقمتين) في ضباب من اليأس لا يشع في جنباته أمل
نزل الملك الغريب سواد العراق نزول الكريم على الكريم فتلقاه بوده، وصفق له من ورده، وبوأه من زعامته المكان الأول بعد فيصل. فكان في السياسة العراقية برهان الله في يقظة الشهوة، وصوت العدل في طغيان الهوى، وهدى المشورة في ضلال الرأي، ورسول الخير في أزمة الحاجة. وكان قصره القائم بالكرادة على الشاطئ الأيمن من دجلة بلاطاً للجلالة الحائرة بين الحجاز والعراق وسورية، تُقضى بين أبهائه الأمور الجسام، وترف على بفنائه