للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

على ثلوج (حَزْرين)

للأستاذ علي الطنطاوي

قال لي صديق:

خطر لي من سنوات أن أرى لبنان في الشتاء، ولبنان في الشتاء له فتنة الراهبة الصبوح بجلبابها الأبيض الذي لا يبدي من جمالها إلا قليلا يثير الرغبة في الكثير، كالجرعة من الكأس لا تبل الصدى ولكن تزيد العطش، والفصل من الرواية لا يغنيك عنها، ولكن يشّوقك إليها، فرحلت بالسيارة مع جماعة من الإخوان من بيروت إلى عاليه، حتى إذا بلغناها، تركنا الطريق المعبد الذي يمرّ على بحمدون وصوفر، وصعّدنا في الجبل، نمشي على غير طريق، وكان الصعود أول النهار سهلا: وكنا أقوياء أولى نشاط، فما قارب المساء وجاوزنا قرية (حزرين) حتى توعرت السبل، فلم نعد نرى من حولنا على مدٍّ البصر إلا ذرى متعمّمة بالسحاب، وتلالا مكسوَّة بالثلج، تبدو القرى في سفوحها البعيدة، وكأن بيوتها المتفرقة بمداخنها، بواخر تمخر العباب، فجعلنا نفتش عن طريق نعود منه، فلم نجد إلا ثلجاً منبسطاً، يخفى السبل ويغطي الأرض، فلا نتبين مواضع الهوى لنتجنبها، ولا نرى الحفر لنحيد عنها، فلم تكن تمر لحظة حتى نقع في حفرة، أو نقدم على السقوط في هوَّة، فآثرنا التفرق علَّ واحداً منا يرى منزلا فيدل عليه إخوانه، وأظلم الليل، وانفردت في مهامه الجبل، واختلطت عليَّ الأرض بالسماء، والتقى الثلج بالسحاب، وهبت الرياح متجمدة من القرّ، كأنها المبارد الخشنة، تحمل برّداً ثقيلا جعل يسَّاقط على وجهي، كالرصاص المندفع من الرشاشات.

وألهب الخوف أعصابي وإن كاد البرد يجمد أطرافي، وصوَّر لي الوهم أشباحاً مرعبة تحيط بي، فكنت أعدو هارباً منها حتى تكلّ قواي، فأقف لأستريح قليلا، فأحسُّ كأن جنياً جباراً يسوقني فأعود إلى العدو. . . وطالالمسير وطال الليل وتهت فما اهتدى إلى منزل، وتاه الفجر فما يهتدي إلى مطلع، ونفذت قواي وحطمني الجهد، فتمنيت الموت وعزمت عليه، وجعلت أفتش عن واد أتردَّى فيه، فرأيت من بعيد نوراً خافتاً، يحاول أن يخترق يحجب الظلام، فيعجز ويرتجف كأنه مقرور مثلي يقضقض عظامه القرّ، وأعصابه من التوتر والفزع كالأسلاك المحماة بالنار، أو كأنه خائف مثلي من الوحدة في هذه الأعالي

<<  <  ج:
ص:  >  >>