الموحشة فهو يرتجفمن الخوف، فأسرعت إليه إسراع المشرف على الغر في اللجة الهائجة إلى السفينة المنجية يرى ضوءها، أو الشاطئ الآمن يبصر مناره، وهبطت وادياً كأنما تعزف فيه الشياطين من أصوات رياحه، ثم صعدت جبلا كأنه من استوائه صرح قائم، حتى وصلت إلى النور، فإذا بيني وبينه سور كأنه كان يوماً. . . سور حديقة، فعالجت بابه لأفتحه فإذا هو صدئ المفاصل كأنه لم يفتح من دهور، فحططت عليه بمنكبي، ودفعته دفعة الآيس، فصرَّ صريراً مخيفاً، رددته هاتيك البطاح، فكان له مائة صدى انبعثت كلها معاً ثم حملتها الرياح إلى بطون الأودية، وعاد السكون، فولجت أحسب أن الرحمة في باطن الباب، الذي كان في ظاهره العذاب، وإذا أنا بشبح أسود يثب إلى وجهي، ويتعلق بي، وله صوت لم يقع في أذني أفظع منه، فنظرت إليه وقد شل الفزع أعضائي وسمَّرت قدماي بالأرض، فإذا هو كلب ضار، يهم بأن ينشب فيَّ مثل أنياب الذئب الكاسر، فتبلد حسي واستسلمت للقضاء، وتوقعت الشر. . . ولكني رأيت الكلب يعدني ويبتعد عني، قد دعاه صوت من داخل البيت فانصرف إليه مزمجزاً ثم أقعى غير بعيد. ومشيت إلى البيت فدخلت إلى ردهة دافئة، فيها كهل وامرأة وشيخان عجوزان، فسلمت فلم يردَّ أحد منهم، ولبثوا يحدقون فيَّ جميعاً بعيون فيها الدهشة والبغضاء، شاخصة لا تطرف، كأنهم يرون فيَّ مخلوقاً عجيباً انشقت عنه الأرض، فلما طال ذلك منهم، ملكتني الحيرة وأخذني من الخوف ما لم يأخذني وأنا معلق بين السماء والأرض، تائه لا أعرف لي متجهاً، وهممت بالفرار ثم خفت أن يلاحقني الكلب، وذكرت الكلب فنظرت إليه فإذا هو رابض يزمجر يريد أن يثب عليَّ فيكفّه الكهل بقدمه، وتجلدت فقلت لهم:
- أنا غريب ضل في هذه الجبال حتى وقع عليكم، وأنا أعتذر أن أزعجكم، وأرجو أن تمنوا عليّ بقدح شاي أطفئ به حر جوفي الذي ألهبه الخوف، وأدفئ به أطرافي التي جمّدها البرد.
فنظرت المرأة إلى الكهل نظرة لمحت فيها خليطاً من الحب والبغض، والشفقة والرهبة، ولبثت لحظة متسائلة، فهز رأسه كالموافق، فقامت تعدّ الشاي، وألقيت بنفسي على مقعد قريب من النار، وجعلت أسارق القوم النظر، فأرى الكهل قوياً متين البناء، لم يجاوز الخمسين، ولكن الهم الذي تبدو عليه ظواهره قد شيَّخه قبل أوان الشيوخة، وأرى المرأة في