نحو الأربعين، ذات جمال وادع قد حجبه ستار من الكآبة والغم، فهو يضئ من ورائه كما تضئ الحلية النفسية من تحت الغبار المتراكم، وجاءت بالشاي فشعرت وأنا أشربه أنه يمشي في عروق كما يمشي الريُّ في النبتة الذاوية تسقيها الماء. ثم قلت لهم: هل تأذنون لي أن أرقد ما بقى من الليلة على هذا الكرسي؟
فقال الكهل بيده وأن لا، وأشار إلى الخادم الشيخ، فسلك بي ممرات وجاز أبواباً كأنها ممرات قصر كبير، لا كوخ منقطع في رأس جبل لا يبلغه جنٌّ ولا بشر، حتى دخل بي بهواً فسيح الجوانب، تفوح منه رائحة القدم والهجران، أحسست لما ولجته أني ولجت جوف مقبرة من المقابر، فوضع الشمعة التي كان يحملها على الموقد، وأحنى رأسه وخرج، وتلفت فرأيت الشمعة قد رسمت ظلالا على الجدران صورها لي الرعب شياطين ذات قرون وأنياب فذهبت إلى الباب أريد الخروج فوجدته مقفلا عليَّ، فلعبت بي ظنون السوء، وزاد بي الفزع حتى رأيت الجدران تنأى عني، والمكان يكبر، ووجدت أن الأرض تدور بي، فصرخت، فعاد الخادم الشيخ فقال: مالك؟
فاستحييت أن أقول له إني خائف. فقلت: ألا تتكرم بإيقاد النار؟
قال: إن الموقد لم يستعمل من عشرين سنة.
قلت: كيف تهملونه عشرين سنة؟
قال: لقد أهملنا البهو كله، منعنا هاني أن ندخله بعدها؟
قلت: بعد من؟
فانتبه وقد كان غافلا، ونظر حوله جزعاً يخاف أن يكون قد سمعه أحد، ثم قال لي:
- تصبح على خير.
وانحنى وخرج مسرعاً.
وغطى التعب أخيراً على مخاوفي، وخفق رأسي، فجئت الفراش لأنام فإذا عليه أرطال من الغبار، فنفضته فهبت زوبعة محملة تراباً فأغمضت عينيَّوغصت في الفراش، لم أعد أبالي من الونى أن يكون مثواي قبر أو مزبلة أو جحر ثعبان. فلم أكد أغفى حتى سمعت مثل أصوات المدافع، تدوّي في أذني فتبدد النوم من عينيَّ ثم ضعف الصوت حتى سمعت منه وأنا بين النائم واليقظان: هاني. هاني. ففتحت عينيَّ، فرأيت الفجر قد بدا، ورأيت الرياح