يستمد كل دين سماوي أولاً وبالذات على الوحي والإلهام، فمنهما صدر، وبما لهما من إعجاز فاز، وعلى تعاليمهما تأسست قواعده وأركانه. وما النبي إلا بشر منح القدرة على الاتصال بالله والتعبير عن إرادته؛ وهذا هو كل ما له من امتياز، فلا يرى رؤيا إلا جاءت كفلق الصبح، ولا يروي خبراً إلا وهو تنزيل من حكيم حميد، ولا يقضي بقضاء إلا وهو ينفذ إرادة الله. والإسلام ككل الديانات السامية يستمد قوته من السماء، فعقائده وقوانينه مأخوذة من الكتاب والسنة اللذين هما وحي مباشر أو غير مباشر:(وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى)، فمن ينكر الوحي يرفض الإسلام في جملته، أو يهاجمه على الأقل في أساسه ويهدم دعائمه الأولى والرئيسية. وتلك جريمة شنعاء قل أن يجرؤ عليها أشخاص عاشوا فوق أرض الإسلام وتحت سمائه. وليس شيء ألزم لفيلسوف مسلم من أن يحتفظ في مذهبه بمكان للنبوة والوحي إذا شاء أن تقبل فلسفته وتقابل بالتسامح من جانب إخوانه المسلمين. وقد كان فلاسفة الإسلام حريصين كل الحرص على أن يوفقوا بين الفلسفة والدين، بينا العقل والنقل، بين لغة الأرض ولغة السماء، لهذا لم يفتهم أن يشرحوا لغة السماء ويوضحوا كيفية وصولها إلى سكان العالم الأرضي وبينوا الدين في اختصار على أساس عقلي، فكونوا نظرية النبوة التي هي أهم محاولة قاموا بها للتوفيق بين الفلسفة والدين. والفارابي هو أول من ذهب إلى هذه النظرية وفصل القول فيها بحيث لم يدع فيها زيادة لخلفائه فلاسفة الإسلام الآخرين. وهذه النظرية هي أسمى جزء في مذهبه الفلسفي، تقوم على دعائم من علم النفس وما وراء الطبيعة، وتتصل اتصالاً وثيقاً بالسياسة والأخلاق، ذلك لأن الفارابي يفسر النبوة تفسيراً سيكلوجياً نفسياً، ويعدها وسيلة من وسائل الاتصال بين عالم الأرض وعالم السماء، ويرى فوق هذا أن النبي لازم لحياة المدينة الفاضلة من الناحية السياسية والأخلاقية، فمنزلته لا ترجع إلى سموه الشخصي فحسب، بل لما له من أثر في الوسط الاجتماعي.
قد يكون الفارابي أكثر فلاسفة الإسلام اشتغالاً بالمسائل الاجتماعية، فهو يتعرض لها في كثير من مؤلفاته، ويعنى بها عناية تدل على الرغبة والاهتمام، وبين رسائله القليلة التي