وصلت إلينا رسالتان رئيسيتان موقوفتان على السياسة والاجتماع، وهما: السياسة المدنية، وآراء أهل المدينة الفاضلة. وله شرح مختصر على نواميس أفلاطون لا يزال مخطوطاً حتى اليوم ومحتفظاً به في مكتبة ليدن، وقد رأيناه هذا الصيف فيما رأينا من مخطوطات عربية أخرى بالمكاتب الأوربية؛ وكتاب آراء أهل المدينة الفاضلة يكفي وحده في أن نعد الفارابي بين من فكروا تفكيراً منظماً في النظريات السياسية، وعله أشهر كتبه وألصقها به؛ وقد عرف المتأخرون له هذه المنزلة، فلقبوا مؤلفه به وسموه (صاحب المدينة الفاضلة)، وهذا الكتاب يحاكي جمهورية أفلاطون إلى حد بعيد، ويحوي كثيراً من الآراء الأفلاطونية. والواقع أن شيخ الأكاديمية انفرد تقريباً، بين مفكري الإغريق، بالتأثير في دراسة العرب الاجتماعية، وبرز في هذا المضمار على أرسطو الذي ساد الفلسفة الإسلامية في نواحيها الأخرى.
فعلى طريقة أفلاطون يرى الفارابي أن المدينة كل مرتبط الأجزاء ومتضامها؛ هي كالبدن إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر. فالألم الذي يحس به أحد أفراد الجمعية لا بد أن يعدوه إلى الآخرين، والسرور الفردي لا يصح أن يعرف في جمعية صالحة. فلا يألم شخص وحده، ولا يُسر وحده، بل يجب أن تسري في الجميع روح واحدة تحس بإحساس مشترك. وإذا كانت أعضاء الجسم ذات وظائف متميزة فواجب أن يكون لكل فرد من أفراد المجتمع عمل خاص، ولن تتم للجمعية سعادتها إلا إذا قسم العمل بين أفرادها تقسيماً متناسباً مع كفايتهم ومشوباً بروح التضامن والتعاون، وبديهي أن الأعمال الاجتماعية متفاوتة بتفاوت غاياتها؛ وأسماها وأشرفها ما اتصل برئيس الجمعية ومهمته، لأنه من المدينة كالقلب من الجسم، فهو مصدر الحياة وأصل التناسق والنظام؛ وليست وظيفته سياسية فقط، بل هي أخلاقية كذلك؛ فإنه مثال يحتذى وسعادة الأفراد تتلخص في التشبه به.
يبني الفارابي كل آماله على رئيس المدينة ويعلق عليه كل الأهمية، كما علق شيخ أثينا أهمية كبيرة على رئيس الجمهورية، ويشترط فيه شروطاً كثيرة تشبه تمام الشبه الشروط التي قال بها أفلاطون من قبل، بل هي مأخوذة عنها نصاً. ويعقد لها في كتابه (آراء أهل المدينة الفاضلة) فصلاً مستقلاً عنوانه: (في خصال رئيس المدينة الفاضلة)، وفي هذا