الفصل يقرر أنه لابد أن يكون رئيس المدينة سليم البنية قوي الأعضاء تامها، جيد الفهم والتصور، قوي الذاكرة، كبير الفطنة، سريع البديهية، حسن العبارة، محباً للعلم والاستفادة، متحلياً بالصدق والأمانة، نصيراً للعدالة، عظيم الإرادة، ماضي العزيمة، قانعاً متجنباً للملذات الجسمية. شرائط صعبة التحقيق ونادرة الوجود مجتمعة في شخص واحد كما يلاحظ الفارابي نفسه، ومع هذا لا يتردد في أن يزيدها تعقيداً؛ فيضيف إليها شرطاً آخر أملاه عليه مذهبه العام واستعداده الصوفي، أو بعبارة أخرى يضيف إليها الشرط الذي يبعده عن أفلاطون بقدر ما يقربه من التعاليم الإسلامية، وذلك الشرط هو أنه لابد لرئيس المدينة من أن يسمه إلى درجة العقل الفعال الذي يستمد منه الوحي والإلهام، والعقل الفعال، كما نعلم، أحد العقول العشرة المتصرفة في الكون، ونقطة الاتصال بين العبد وربه، ومصدر الشرائع والقوانين الضرورية للحياة الخلقية والاجتماعية، وعلنا تلحظ من هذا أن خيال الفارابي - ولو في هذه النقطة على الأقل - أخصب من خيال أفلاطون. ففي حين أن مؤلف الجمهورية يريد أن يرغم الفيلسوف على النزول من سماء التأملات إلى عالم الشؤون السياسية، يطلب الفارابي من رئيس مدينته أن يندمج في العالم الروحي وأن يحيا بروحه أكثر من حياته بجسمه، ويشترط فيه أن يكون قادراً باستمرار على الاتصال بالعقل الفعال. فالحاكم الفيلسوف الذي قال به أفلاطون يتحول إلى حكيم واصل عند الفارابي. يقول دي بور في حق:(يُبْرز الفارابي رئيسه في كل الصفات الإنسانية والفلسفية؛ فهو أفلاطون في ثوب محمد النبوي). وواجب على رئيس كهذا قد حظي بالسعادة الحقة ونعم بالاتصال بالكائنات الروحية أن يجتذب مرءوسيه نحوه، ويقوم على تهذيب أرواحهم أولا وبالذات، ويصعد بهم إلى مستوى النور والإشراق. فنحن إذن أمام مدينة سكانها قديسون ورئيسها نبي، وهي مدينة لا وجود لها إلا في مخيلة الفارابي.
بيد أن الفيلسوف العربي يأبى إلا أن يصور لنا من هذا الخيال حقيقة ويحملنا على التسليم بإمكان المدينة الفاضلة التي ينشدها، ذلك لأن الاتصال بالعقل الفعال، وإن يكن نادر الوجود وخاصاً بعظماء الرجال، ميسور من طريقين: طريق العقل وطريق الخيالة، أو طريق التأمل وطريق الإلهام؛ فبالنظر والتأمل يستطيع الإنسان أن يصعد إلى درجة العقل المستفاد حيث تتقبل الأنوار الإلهية، وليست النفوس كلها قادرة طبعاً على هذا الاتصال، وإنما تسمو