للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

إليه الأرواح القدسية التي تستطيع أن تخترق حجب الغيب وتدرك عالم النور. يقول الفارابي: (الروح القدسية لا تشغلها جهة تحت عن جهة فوق؛ ولا يستغرق الحس الظاهر حسها الباطن؛ وقد يتعدى تأثيرها من بدنها إلى أجسام العالم وما فيه؛ وتقبل المعلومات من الروح والملائكة بلا تعليم من الناس). فبفضل الدراسات النظرية الطويلة والتأملات العقلية الكثيرة يستطيع الحكيم الاتصال بالعقل الفعال، وهذا الحكيم الواصل هو الذي يسمح الفارابي بأن يكل إليه مقاليد أمور مدينته، وبهذا يحل (صاحب المدينة الفاضلة)، على طريقته طبعاً مشكلة الرئيس السياسي والاجتماعي، وهو حل صوفي كما ترى؛ وليس غريباً أن يصدر عن فيلسوف يقول بنظرية السعادة والاتصال. فآراء الفارابي السياسية، وإن اعتمدت على دعائم أفلاطونية مشوبة بنزعة صوفية واضحة.

على أن الاتصال بالعقل الفعال ممكن أيضاً عن طريق الخيالة، وهذه هي حال الأنبياء؛ فكل إلهاماتهم وما ينقلون إلينا من وحي منزل أثر من آثار الخيالة ونتيجة من نتائجها، وإذا ما رجعنا إلى علم النفس عند الفارابي وجدنا أن المخيلة تلعب فيه دوراً هاماً وتنفذ إلى نواحي الظواهر النفسية المختلفة. فهي منبتة الصلة بالميول والعواطف وذات دخل في الأعمال العقلية والحركات الإرادية. تمد القوى النزوعية بما يستثيرها ويوجهها نحو غرض ما؛ وتغذي الرغبة والشوق بما يؤججهما ويدفعهما إلى السير في الطريق حتى النهاية. هذا إلى أنها تحتفظ بالآثار الحسية وصور العالم الخارجي المنقولة إلى الذهن عن طريق الحواس، وقد لا يقف عملها عند ادخار الصور الذهنية والاحتفاظ بها، بل تخلق منها قدراً مبتكراً لا تحاكى فيه الأشياء الحسية، وبهذا يشير الفارابي إلى الخيالة المبدعة التي تنبه إليها علماء النفس المحدثون بجانب الخيالة الحافظة ومن الصور الجديدة التي تخترعها الخيالة تنتج الأحلام والرؤى. ويعنينا هنا قبل كل شيء أن نبين أثر الخيالة في الأحلام وتكوينها. فإنا إن فسرنا الأحلام تفسيراً علمياً استطعنا أن نفسر النبوة وآثارها. ذلك لأن الإلهامات النبوية إما أن تتم في حال النوم أو في حال اليقظة؛ وبعبارة أخرى إما أن تبدو على صورة الرؤيا الصادقة أو الوحي. والفرق بين هذين الطريقين نسبي، والاختلاف بينهما في الرتبة لا في الحقيقة. وما الرؤيا الصادقة إلا شعبة من شعب النبوة تمت إلى الوحي بصلة وتتحد معه في الغاية وإن اختلفت عنه في الوسيلة. فإذا فسرنا أحدهما أمكن

<<  <  ج:
ص:  >  >>