تفسير الآخر. وقد عقد الفارابي في كتابه: آراء أهل المدينة الفاضلة فصلين متتاليين (في سبب المنامات، وفي الوحي ورؤية الملك)؛ وفي هذا ما يبين الصلة بين هذين المبحثين.
فهو يبدأ أولا بالأحلام فيوضحها توضيحاً يقرب كثيراً من بعض الآراء العلمية الحديثة، ويرى أن المخيلة متى تخلصت من أعمال اليقظة تفرغت أثناء النوم لبعض الظواهر النفسية، فتخلق صوراً جديدة أو تجمع صوراً ذهنية قديمة على أشكال مختلفة محاكية ومتأثرة في ذلك ببعض الاحساسات والمشاعر الجسمية أو العواطف النفسية والمدركات العقلية، فهي قوة مخترعة قادرة على الخلق والإيجاد والتصوير والتشكيل، ولها أيضاً قدرة عظيمة على المحاكاة والتقليد، وفيها استعداد كبير للانفعال والتأثر فأحوال النائم العضوية والنفسية واحساساته ذات أثر واضح في مخيلته، وبالتالي في تكوين أحلامه، وما اختلفت الأحلام فيما بينها إلا لاختلاف العوامل المؤثرة فيها، فنحلم بالماء أو السباحة مثلاً في لحظة يكون مزاجنا فيها رطبا، وكثيرا ما مثلت الأحلام تحقيق رغبة أو الفرار من فكرة بغيضة؛ فقد يتحرك الإنسان أثناء نومه تلبية لنداء عاطفة خاصة، أو يجاوز مرقده ويضرب شخصاً لا يعرفه أو يجري وراءه، وعلى الجملة الميول الكامنة والاحساسات السابقة أو المصاحبة لحلم ما ذات دخل عظيم في تكوينه وتشكيله. ولسنا في حاجة لأن نشير إلى أن هذه الملاحظات على بساطتها تشبه التجارب العلمية التي قام بها فرويد وهرفي وموري من علماء النفس المحدثين الذين اشتغلوا بالأحلام وتحليلها. وقد أبان فرويد في جلاء أثر الميول الكامنة في تشكيل الرؤى والأحلام، وخاصة لدى الكهول والشبان؛ واستطاع هرفي وموري أن يبرهنا على أن الحلم غالباً ما يكون امتداداً لإحساس سابق أو نتيجة لإحساس مقارن، فقد يحلم الإنسان بحريق في حجرته في الوقت الذي يقع فيه بصيص من الضوء على حدقته أثناء نومه، أو بأنه يضرب على أثر ألم في ظهره. وقد حدث مرة أن رأى شخص أن داره تنهار به في الوقت الذي انكسرت فيه إحدى قوائم سريره. ولقد وصل الأمر بهرفي أن ظن - بناء على ما سبق - أنه يمكن أن يتصرف في أحلامه ويشكلها كما يشاء، فمتى ربط صلة بين بعض الاحساسات وذكريات معينة استطاع في نومه استعادة هذه الذكريات بإثارة الاحساسات المتصلة بها. وقديماً حاول الإغريق أن يحتفظوا بأحلامهم أو يثيروها بواسطة بعض الطقوس الدينية.