وإذا كان في مقدور الخيالة أن تحدث كل هذه الصور فهي تستطيع أن تشكلها بشكل العالم الروحاني، فيرى النائم السموات ومن فيها، ويشعر بما فيها من لذة وبهجة. وفوق هذه فقد تصعد المخيلة إلى هذا العالم وتتصل بالعقل الفعال الذي تتقبل منه الأحكام المتعلقة بالأعمال الجزئية والحوادث الفردية، وبذا يكون التنبؤ؛ وهذا الاتصال يحدث ليلاً ونهاراً، وبه نفسر النبوة، فهو مصدر الرؤيا الصادقة والوحي. يقول الفارابي:(إن النبوة المتخيلة إذا كانت في إنسان ما قوية كاملة جداً، وكانت المحسوسات الواردة عليها من خارج لا تستولي عليها استيلاءً يستغرقها بأسرها، ولا يستخدمها للقوة الناطقة، بل كان فيها مع اشتغالها بهذين فضل كثير تفعل به أيضاً أفعالها التي تخصها، وكانت حالها عند اشتغالها بهذين في وقت اليقظة مثل حالها عند تحللها منها في وقت النوم. . . اتصلت بالعقل الفعال وانعكست عليها منه صور في نهاية الجمال والكمال، وقال الذي يرى ذلك إن لله عظمة جليلة عجيبة، ورأى أشياء عجيبة لا يمكن وجود واحد منها في سائر الموجودات أصلاً، ولا يمتنع إذا بلغت قوة الإنسان المتخيلة نهاية الكمال أن يقبل في يقظته عن العقل الفعال الجزئيات الحاضرة والمستقبلة أو محاكياتها من المحسوسات، ويقبل محاكيات المعقولات المفارقة وسائر الموجودات الشريفة ويراها، فيكون له بما قبله من المعقولات نبوة بالأشياء الإلهية، وهذا هو أكمل المراتب التي تنتهي إليها القوة المتخيلة والتي يبلغها الإنسان بهذه القوة فميزة النبي الأولى في رأي الفارابي أن تكون له خيالة قوية تمكنه من الاتصال بالعقل الفعال أثناء اليقظة وفي حال النوم، وبهذه الخيالة يصل إلى ما يصل إليه من إدراكات وحقائق تظهر على صورة الوحي أو الرؤيا الصادقة، وليس الوحي شيئاً آخر سوى فيض من الله عن طريق العقل الفعال، وهناك أشخاص قويو الخيالة، ولكنهم دون الأنبياء فلا يتصلون بالعقل الفعال إلا في حال النوم، وقد يعز عليهم أن يعربوا عما وقفوا عليه، أما العامة والدهماء فمخيلتهم ضعيفة هزيلة لا تسمو إلى درجة الاتصال هذه لا في الليل ولا في النهار. يقول الفارابي: (ودون الأنبياء من يرى بعض الصور الشريفة في يقظته وبعضها في نومه، ومن يتخيل في نفسه هذه الأشياء كلها ولكن لا يراها ببصره، ودون هذا من يرى جميع هذه في نومه فقط؛ وهؤلاء تكون أقاويلهم التي يبرون بها أقاويل محاكية ورموزاً وألغازاً وتشبيهات، ثم يتفاوت هؤلاء تفاوتاً كثيراً). وهنا يشير الفارابي