ظهر الإسلام بين أمة وصلت في البداوة إلى أبعد حدودها، وكانت طبيعة بلادها تجعلها بداوة قاسية، يشتد فيها النزاع والخصام بين الأفراد والقبائل، ويكون السلب والنهب أظهر عمل فيها لكسب العيش، وفي هذا تنتصر القوة الغاشمة، ويظفر الباطل بالحق
وكان يحيط بهذه البداوة الغاشمة حضارتان مختلتان، حضارة الفرس بالمشرق، وحضارة الروم بالمغرب، قد سرى الفساد فيهما حتى أنهكهما، فلم يكونا أقل ضلالاً من تلك البداوة، ولم يكن أهلهما أقل شقاء من أهل تلك الصحراء
فكان من أهم أغراض الإسلام القضاء على تلك البداوة وآثارها في بلاد العرب، وإنشاء حضارة جديدة صالحة للبشر عامة، يرتفع فيها لواء العدل، وينتصر الحق على الباطل، وتنتشر المساواة بين الشعوب والأفراد، فلا يظلم قوي ضعيفاً، ولا يأكل غني فقيراً، وبذلك يسود السلام بين الشعوب بالمساواة بينهم، ويجعلهم جميعاً عناصر لأمة واحدة لا يمتاز فيها على شعب، ولا تفرق بينهم الفوارق أيا كان أمرها
ولا غرو في أن يكون مثل هذا من أغرض الإسلام، بل لا غرو في أن يكون هذا من أهم أغراضه، لأن الإسلام يمتاز على غيره من الأديان بأنه لم يشرع للآخرة وحدها، ولم يعمل لسعادة البشر فيها فقط، بل شرع لسعادة الدنيا والآخرة، وعمل على أن يكون البشر سعداء في دنياهم، قبل أن يكونوا سعداء في أخراهم
وقد صرح القرآن الكريم بذلك الغرض العظيم في بعض آياته، فقال تعالى في الآية (٥٥) من سورة النور (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون) وقد بين في آية أخرى أهم شيء تمتاز به هذه الأمة في حضارتها الجديدة، فقال في الآية (١١٠) من سورة