للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[بنك مصر]

غداَ في الساعة الخامسة يبدأ الاحتفال القومي بمرور خمسة عشر عاما على مولد بنك مصر. والاحتفال بعيد هذا البنك النامي الخصيب احتفال بالنصر المؤزر في جهاد الأمة لاستقلالها الحق؛ فإن مصر منذ انحسر عن الأرض ذلك الطوفان الدموي الذي غمرها أربع سنين، هبت تقرر في الدول وجودها الطبيعي الحر، فما صغت لها إذن، ولا نهضت بحجتها عدالة. ذلك لأن أوربا الجائعة المجهودة تريد أن تسد فجوات القنابل وحفائر الخنادق وأخاديد القبور بما بقي على الأحداث من أقوات الشرق؛ والشرقي - كما تعلم - يستطيل بالكرم ويستعز بالجاه، فما دمت تحله الصدر، وتبوئه الوظيفة، فلا عليه بعد ذلك أن يكون كرسيه بالاستعارة، ومأكله بالدين، ومسكنه بالأجرة!

حمل المنتجون العجاف من أهل أوربا ثمر نشاطهم الصناعي إلى أسواقنا القاصرة المستهلكة، وقاموا على أرزاقنا مقام القيم يبِضُّون لنا بما لا يكاد يستر الجسم ويمسك الرمق، ثم يحولونها عمرانا في خرائب باريس، وسلطاناً في حكومة لندن، ويسمعوننا نثور في المحابر ونصيح على المنابر، فيقولون اكتبوا ما واتى المداد القلم، وأخطبوا ما أسعف الريق اللسان، فلن ينزع العلق خراطيمه الماصة من الجلد مادامت الجنود مقبورة في الثكنات، والأموال مطمورة في الخزائن! حينئذ قال رجل الساعة محمد طلعت حرب باشا: رويدكم! سنرسلها شعواء بالذهب لا بالحديد!

كانت مصر في العهد الذي أسس فيه بنك مصر في مأزق من مآزق الحياة المشتبهة الخادعة: تنعم في رخاء كاذب وأمن مريب، ووراءها أوزار حرب ضروس، وأمامها لوائح أزمة طاحنة، وشباب البلاد تعصف في رءوسهم نخوة الوطنية والحرية والكرامة، فلا يفكرون إلا في الإحتلال، ولا يعملون إلا للسياسة؛ وأغنياء الأمة جاثمون على أموالهم المكدسة جثوم الدجاجة المرخم على بيضها العقيم، لا يُثمِّرونه بأنفسهم لنقص الكفاية، ولا يكلون استثماره لغيرهم لفقد الثقة؛ ورجال الدولة مشغولون بجباية الخراج، وتحضير الميزانية، واستئناف المفاوضات، وتحرير مشروعات المعاهدة، فلا يملكون حماية التجارة لقيود الجمرك، ولا يستطيعون إنشاء الصناعة لمناوأة المحتل؛ والأجانب عاكفون على منابع الوادي يستنزفونها بالربا، ويكدرونها بالسفه، ثم لا يسمحون للظمآن أن يألم، ولا للمهان أن يغضب

<<  <  ج:
ص:  >  >>