وكانت عناية الله التي ألهمت سعد زغلول أن يخرج شعبه من رق الاحتلال السياسي، هي التي ألهمت في الوقت نفسه طلعت حرب أن يخرج قومه من رق الاحتلال الاقتصادي؛ وكلا الرجلين منذ نشأ ميسر لما قام له: فسعد باشا بطبعه رجل كفاح وخصومه وزعيم برلمان وحكومة، ورسول من رسول الوطنية الروحية، له عصمته وجاذبيته وإيمانه؛ وطلعت باشا بطبعه رجل إنشاء وعمل، وصاحب تدبير وخطة، ورسول من رسل الوطنية المادية، يهذب النفس برفاهة الجسم، ويرفع العمران بوفرة الإنتاج، ويضمن الاستقلال بقوة الثروة، وله كذلك عبقريته ونزاهته وإخلاصه
وثق الناس بالزعيمين الخطيرين فجادوا للأول بالأنفس فشاد بيت الأمة، وكون الرأي العام، وألف الوفد؛ وجادوا للثاني بالأموال، فشاد بنك مصر، وأنشأت شركات مصر، وكوّن ثروة مصر؛ وربى سعد باشا لوطنه شباب جهاد وتضحية، كانوا منه مكان القلب الشاعر، والحس المدرك، والروح الملهم؛ وربى طلعت باشا لشعبه شباب اقتصاد وروية، كانوا منه مكان البصيرة الحازمة، واليد العاملة، والعقل المنظم؛ ثم كان من هؤلاء وهؤلاء دليل ناهض على يقظة هذه الأمة وشعورها بإرادتها لما تفعل، وسيادتها على ما تملك، وحريتها فيما تريد
لا أستطيع بهذا القلم الموجز في هذا المكان المحدود أن اجمل ما أضفاه بنك مصر وشركاته ومنشآته من النعمة على الأمة؛ وإن في تقرير مجلس الإدارة الذي نشر منذ أيام عن السنة الخامسة عشرة من حياة البنك، والخطبة الخطيرة الذي سيلقيها المدير الجليل في احتفال الغد عن حياة البنك، لبلاغاً لمن لم يسمع إلى اليوم ذلك اللحن القومي القدسي الذي يتألف من صريف الأموال المصرية في البنك، وهدير البواخر المصرية في البحر، وأزيز الطوائر المصرية في الجو، ودوي المصانع المصرية في المحلة!
إن نجاح بنك مصر وشركاته هو وحده الحجة الدامغة على نضوج هذا الشعب، لأنه نسق من الضرورة والقدرة والنظام والثقة لا يقوم على الهوى، ولا ينتظم على الطيش، ولا يصبر على الفساد، ولا يتقدم على العجز، ولا يبلغ شيئا وراء الزعامة الرخوة؛ فبينما نجد النهضة السياسية تنتكس فترجع إلى الموت، والحالة الأخلاقية تنحل فتعود إلى المهانة، والحركة الأدبية تضطرب فتنقلب إلى الفوضى، نجد هذا البنك ينمو نمو النبات بَرَكة على