أنضجت قلبه النار المقدسة التي أنضجت قبله قلوب رعاة القطيع. . . ورواد الطريق، وآباء الإنسانية البلهاء. . . فغدا يسير على الدنيا وله فيها زفير وشهيق مكتومان لا يحسهما إلا من يتصل به عن قرب فيفتح له قلبه الكبير الذي فيه كل آلام الناس، وكل فجائع الناس، وكل مسئوليات الناس. . . كأنه أب ذو عيال! وكأنه مسئول عن ذنوب البشر فهو يبخع نفسه أسفاً ويسيل نفسه حسرات.!
سألته مرة: لم تحمل على قلبك الدنيا؟ ولم تجتر آلامها وتمضغ أسقامها، ولست فيها حاكما ولا شرطياً! فقال: بليت بالنظرة الناقدة إلى العيوب، وبالعجز عن وسائل الإصلاح، فكان لي ما تراه من إدمان المضغ لأحاديث الشقاء وأماني الشفاء!
مات أبوه فبكت عينه وقلبه ذلك البكاء الرحيم لألم الحب والرحمة والفقد ساعات. . . ثم نامت عينه ونام جسده بجوار جثة أبيه حتى صباح الدفن والضريح كأن شيئاً لم يحدث. . . ولكنه لا ينام إذا مات من دينه أو وطنه شي. . . حتى يكاد يجن من الأرق، لولا أن يتداركه الله بالنسيان والسلوى
ينخل الرجال والأعمال، ويرى ما وراء الوجوه ويقرأ ما بين السطور. . . فتروعه عورات الحقيقة العارية في الناس. . . إذ يرى الجهل والإثم والدجل والخيانة والأنانية والبلاهة. . . فيسأل السماء: أهذه هي الإنسانية أثمن وديعة في الأرض حاكمة ومحكومة؟!
مرهفٌ حسُّه: فيرى كل شيء ويشم كل شيء ويسمع كل شيء حتى امتلأ وأتخمته الدنيا بما فيها؛ فضوي جسده، وتوسعت نفسه على حسابه
استقى لنفسه من الأنهار الكبيرة الجارية، ومن الجداول الصغيرة، ومن البرك الآسنة، وحط على الزهرة والشوكة، والجبل والحصاة والنار والماء. . . فاصطرعت فيه الأضداد.
يعيش في سجن من وصايا الدين والعلم والخلق كأنه (ديدبان) فهو مسجون وسجان. . .
متيقظ للزمان. . . يعيش كل دقيقة. . . ويحسب كل نفس، ويصحب نفسه دائماً حتى أصيب بالذهول عن الناس.
يتكلم مع كل شيء؛ فيقول لكل حق أنت صديقي، ولكل باطل أنت عدوي. . . لا يؤمن