مهداة إلى الأستاذ أحمد حسن الزيات، وإلى الدكتور طه حسين، وإلى أصحابهما جميعاً
قد تبدو هذه الكلمات غريرةً للذين لا يرون في الصداقة إلا وسيلة نفعية تعود على كلٍ من المرتبطين بها بفائدةٍ محسوسة: كالظهور بمظهر العظمة، أو التمكن من دحر منافس، أو التعاون على الإساءة إلى شخص أو أشخاص، أو جني ثمرةٍ ملموسة وتحقيق غرض مالي أو اجتماعي
ونخطئ إن نحن نسبنا إلى أهل هذا العصر وحدهم الصداقة المغرضة، لأن تلك كانت شيمة الكثيرين في جميع العصور وعند جميع الأقوام. قد تكون في هذا العصر أكثر لنور وإلى الهواء - إذا أنت طلبت هذا من الصداقة وعند الصديق، فما أنت في نظر تلك الفصيلة من الناس إلا من أهل الشذوذ والغباوة. . . على الأقل!
وعلى رغم كل ذلك فموضوع الصداقة من الموضوعات التي نُقبلُ عليها في اهتمام ولهفة ولو جاز لي أن أشير إلى خلق خاص في، قلتُ إني أشعر بشيء غير قليل من الأسف كلما انتهى إلى أن صديقين كريمين تجافيا بعد التصافي. وقد يكون ذلك أن انفصام عرى الصداقة بين الآخرين كأنما ينال من إيماني بالصداقة ويزعزع من رجائي فيها
أولى ذكرياتي في هذا الموضوع ترجع الى قصة فرنسية، هي (أبرص بلدة آووستا) بقلم كزافييه دي ميستر، واظنني قرأتها لأول مرة وأنا في سن العاشرة تقريباً. فيها وصف ذلك الجندي الكاتب اجتماعه برجلٍ ابتلى بداء البرص المروع، فنبده الناس من مجالسهم، وحايدوا الدنو من الدار التي عاش فيها وحده حبيساً طوال الأعوام
تُطوح السبيل بالكاتب الغريب إلى تلك البلدة وتسوقه الى الدار المخيفة، ويلجُ باب الحديقة فيبصر الرجل الموبوء وهو لا يدري بحالته. وعندما يحذره الأبرص ويفضي إليه بمحنته لا يلوذ الكاتب بالفرار، وإنما يقترب منه ويجلس إليه مستفسراً عن معيشته وأحواله، وعما يحسه في الابتعاد عن أولئك البشر الذين هم منهم، فيعترف الأبرص بأن آلامه الأدبية تفوق أوجاعه الجسدية، يعترف بعذابه في حزن هادئ يشبه الامتثال والرضى، يعترفُ بحاجته الى الشعور بأن قلباً يعطف عليه ويحن إليه، بأن يداً تصافح يده، بأن صدراً يتلقاه