ويحتضنه، حتى أنه لشدة حاجته تلك يحتضن أحياناً جذوع الشجر ويضمنها إليه ما استطاع، كأنها كائنات انسانية. يعترف بشوقه الى سماع صوت بشري، الى تبادل السلام والحديث مع من يفكر تفكيره ويحس إحساسه، الى جميع تلك الأمور التي عرف قيمتها لأنه حُرِمَ منها، والتي يتمتع بها الجميع جاهلين أنها منحة ومتعةٌ لأنها عاديةٌ بينهم. ويقولُ فيما يقول وكأنه يلخص جميع صنوف عذابه في هذه الكلمة:
- لم يكن لي يوماً صديق
والكاتب الذي عرف كيف يُصغي الى شكايته في هدوء ورباطة جأش، تهتاج تلك الكلمة شجونه وتحز الشفقة في قلبه فلا يتمالك من الهتاف:
- يا لك من تَعس!
تلك الكلمة من الأبرص، ورد الجندي الكاتب عليها، استقرت في موضع عميق من روحي عند قراءة القصة، بل القصة كلها تجمعت عندي في تلك الكلمة وفي التعقيب عليها؛ وقد يكون لها الأثر الكبير في تكوين إيماني العنيد بأن لابد من وجود الصداقة - مع اعتقادي بأن نفاسة الصداقة نفسها تحتم فيها الندرة
لسنا في حاجة إلى دهور نعيشها لندرك كم في هذه الحياة البشرية من خبث ومراوغة ونفاق. اختباراتٌ قليلة تكفي لتدلنا على أن بعض المُثُل العليا تخذلنا وتصرعنا بلا رحمة، ثم تنقلب مسوخاً ساخرة مزرية، لا تلبثُ أن تكثر عن أنيابها، مهددة متوعدة - وهي التي تجلببت في نفوسنا من قبل جلباب القدسية والعبادة!
اختباراتٌ قليلة في أحوال معينة، وأحوال مفاجئة، تكفي لتظهر لنا أن من الناس من يتاجر بكل عاطفة صالحة لتنفيذ أغراض غير صالحة، ومن يستغل كل استعداد كريم لنتيجةٍ غير كريمة، ومن لا يكتفي بالظلم والاجحاف، بل لا يتورع عن إيذاء الذين أخلصوا النية في معاملته، ولم ينله منهم إلا الخير.
وكم مِن مذيعٍ أنباء الصداقة لا لسبب آخر سوى التوغل في الإيذاء باسم الصداقة، في أساليب سلبية أو إيجابية لا يعلم إلا هو كم هي خبيثة وكم هي فعالة
وكيف تعامل أولئك الناس عندما تكشف عما يضمرون؟ أتحاسنهم. إنهم يحسبون المحاسنة ضعفاً ومداراة، فيمعنون في الأذى؟ أتخاشنهم؟ إنهم يزعمون المخاشنة جحوداً ومكابرةً،