في يوم وليلة رأينا مصر المبعوثةَ من مرقد الخلد تدخل في عهدها الجديد الجدّي فتنهض بما توجبه الحياة الحرة من تكاليف الاستقلال وتبعات السيادة!
كان ذلك اليومُ يومَ الخميس الماضي، وكانت تلك الليلة ليلة الثلاثاء قبله! ففي هذا اليوم كان عرض القاهرة لجيشها الفتيِّ في آلته الحديثة وعدته الكاملة؛ فخرج من عرائنه الشُّم والصباح الضاحي يتنفس بأريج مايو الجميل، وسار في الشوارع الحاشدة يعرض على الأنظار الدَّهِشة قوى الدفاع وأسلحة الأمن وما لا بد منه لمن يعيش في زمن استذأب وضَرِي حتى أنكر حق الحياة على نوع الحمل.
لم تكن المدافع القصيرة والطويلة، ولا الدبابات الخفيفة والثقيلة، هي التي ملكت الألباب وأثارت الإعجاب وفجرت الحماسة؛ فإن منظر آلات الدمار والموت أصبح لطول ما ألِفه الحس لا غرابة فيه ولا عجب منه؛ وإنما الذي ملك الألباب حتى أذهل، وأثار الإعجاب حتى أدهش، وفجَّر الحماسة حتى أطغى، هو منظر جنود مصر بشبابهم الفاره، وخَلْقهم السِويِّ، وملامحهم الدالة، ومظهرهم الأخاذ، ونظامهم الرائع؛ فكأنما جنود إبراهيم لم يلقوا السلاح منذ ارتد قائدهم عن الآستانة. فأين كان مكمن هذه الروح الحربية القوية مدى حقبةٍ من الرخاوة والكسل لو مرت على الضواري لطمست في وجوهها معارف الجرأة، وأماتت في نفوسها معاني الافتراس؟ لقد كان لنا قبل سبتمبر الماضي جيش من الأرقام متواضع العدد والعدة، يعيش في أكناف الشعب عيش الأمان والغفلة، لا يعرف الحدود إلا على الورق، ولا يشهد الحروب إلا في السينما، ولا يدرك معنى الدفاع عن النفس في وجود إنجلترا إلا كما تدركه الزوجة المرفهة في وجود زوجها، والولد المدلل في حضرة أبيه. فكيف انقلب هذا الجيش الصغير الغرير في سبعة أشهر جيشاً من المردة العتاة يقيم المعاقل على البحر، وينحت الخنادق في الصخر، ويروض أوعار الأرض لإقدامه، ويذلل أخطار السماء لقوادمه، ويضع الخطة فلا تخطيء، ويسدد الرمية فلا تطيش، ويقف جنباً إلى جنب مع الجيش الذي قهر نابليون وهزم غليوم وغنم الدنيا، فلا يفوقه في نظام، ولا يفوته في سبق، ولا يبذه في مناورة؟ السر في معدن هذه الأرض التي جعلت للزمان تاريخاً وللإنسان