مدنية. والسحر في طبيعة هذا الفلاح الذي طبع آثاره على جباه القرون وسلطانه على قلوب الأمم. وفرخ النسر لا يعلَّم كيف يصيد، وشبل الأسد لا يدرَّب كيف يفترس!
وفي تلك الليلة كانت تجربة الدفاع الجوي عن القاهرة. ففي عتمة الليل والناس لاهون صاحت الأبواق المنذرة بالغارة في كل حيّ، فأطفأت الأنوار وأسدلت الأستار وخشعت الأصوات وسكنت الحركات، وأقفرت الشوارع إلا من رجال الشرطة والمطافئ والإسعاف، وجثم على صدر العاصمة كابوس من الرهبة والقلق، فامتدت العيون خلسة من وراء السجوف ومن خلال النوافذ فلم تر إلا الظلام يموج، والنجوم تضطرب، والرقابة تحت الحنايا الآمنة تتهامس، والمدافع فوق العمائر العالية ترتقب. ثم أقبلت من الحدود الغربية النسور المغيرة فرنَّقت في جو المحروسة على علو لا يُرى ولا يسمع؛ ولكن آلات الرصد نبهت الكشافة فأرسلتْ على أطباق الجو الحالك أفواجاً من الأشعة الخاطفة، تتطاول وتتعارض، وتتعانق وتتشابك، حتى لم تدع طائراً يطير إلا صوَّرته في عدسة مدفع. وفي آخر الهزيع الأول من الليل أعلنت الأبواق بأصواتها المتصلة انقطاع الغارة، فأشرقت المدينة، واستأنف الناس حياة اللهو والأنس وهم يشعرون انهم اصبحوا خلقاً كسائر الخلق لهم قوة لا تُزدرى، وكرامة لا تمتهن، وحمى لا يستباح.
في هذه الليلة وفي ذلك اليوم أدركنا أن مصر الناهضة قد بلغت سن التكليف وجاوزت حد العبث؛ فهي تستعد للحرب والسلام، وتبنى بالفعل لا بالكلام، وتقد إلى ساحة الدفاع المقدس شيوخ دينها وشباب دنياها، وهي راضية بهذا البذل فخورة بهذه التضحية. والفضل كله للأحداث التي تذيب الغش وتفضح الزيف وتمحص الكفاية.
لا جرم إنا كسبنا مغانم الحرب وأن لم تكن حرب. لأننا بما عملنا أوجَدنا شيئاً لا بد من إيجاده، وبما بذلنا سددنا عوزاً لا مناص من سداده. أما الدول الأخرى فدفاعها مكين الأساس مرفوع القواعد منيف الذرى، فكل ما تنفقه عليه يضطرها الخوف إليه لتأمن الفشل وتضمن العاقبة.
ماذا كنا قبل أن ينتشر الجراد الرومي المسلح على حدودنا المهملة؟ كنا قوماً من سادة الماشية وعبيد الأرض تركوا أزمتهم للقدر وثروتهم للغريب وحمايتهم للحليف، ثم أقبل بعضهم على بعض يتنافسون في الهزل من غير غرض، ويتراشقون بالتهم من غير بينة،