للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[من وراء المنظار]

شيخ وشيخ

هاأنذا في الريف أضع على أنفي منظار القرية، وقد تركت فوق مكتبي في (الرسالة) منظار القاهرة حتى أعود إليه بعد حين. وكان أول ما وقع عليه في القرية منظاري الجديد بعض ما صنع هذان الشيخان في ضحى يوم من أيام رمضان.

أما أولهما فشيخ من حيث الاصطلاح والملبس، فقد لبث في الأزهر من عمره سنين ولا يزال في القرية يضع على رأسه عمامة هي كل حجته على العلم والورع وإن كانت بعض وسائله إلى المال والشبع. وأما ثانيهما فشيخ من حيث العمر فقد تخطى السبعين منذ سنتين وبعض سنة كما ذكر لي حين حدثني عن سنه. . .

جلست أمام داري عند مخرج القرية إلى الحقول وأنا أعجب كيف يغدو الفلاحون إلى أعمالهم صابرين، وقد قضى الصوم والحر على كل ما كان من نشاط في بدني فما أتحرك لكي أبقى في الظل إلا في مشقة وجهد. وبينما كنت أتفكر في أمر هؤلاء المساكين إذ أقبل على أحدهم فسلم وجلس القرفصاء إلى جانب كرسي وأسند إلى الحائط ظهره، ونظرت إليه فإذا هو من فرط نحوله وشحوبه أشبه شيء بعود الذرة جف فاغتدى عوداً من الحطب.

وتكلم فقال: (لن ينقذني من الشيخ فلان إلا أنت؛ فقد اضطرتني الحاجة إلى أن أقترض منه منذ شهرين جنيهين ونصف جنيه على أن أعطيه وفاء لديني أردباً كاملاً من القمح الجديد. ولما كنت أستطيع أن أبيع الأردب اليوم بخمسة جنيهات فقد ألححت عليه أن يأخذ ثلاثة جنيهات؛ ولكنه تمسك بأردب القمح كاملاً. وها هي ذي ثلاثة جنيهات ونصف أرجو منك أن تتوسط لدى الشيخ ليقبلها) ومد الرجل إلى يده بالنقود وهي ترتعش، ولمحت في وجهه من السخط المكظوم ما زاده بؤساً على بؤس. . . ولكنني أخذت منه قيمة الدين ورددت إليه جنيهاً، فنظر إلي دهشاً وسكت.

ومضيت إلى الشيخ وفي خاطري خيال (شايلوك) يهودي شكسبير، وسلمت وقلت إن فلاناً ذو عسرة؛ وقد توسل إلي أن أؤدي عنه ما عليه لك من دين. ومددت إليه يدي بجنيهين ونصف جنيه فحسب. فما إن عدها حتى اصفر وجهه وتكره لي كأني أشتمه، ثم أخذته حيرة من أمره وتمتم وعبس وتأنف ودس المال في جيبه وهو يلعن هؤلاء الفلاحين الذين

<<  <  ج:
ص:  >  >>