للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[من ميدان الحياة]

للأستاذ شكري فيصل

هذه الأماني التي تعتادني اليوم. . . ما بالها تزدهر في خاطري من جديد، وكنت أحسب أنها الفرقة التي لا رجعة وراءها، والهجر الذي لا لقاء بعده، والأسباب التي انقطعت فلا سبيل إلى صلتها؟ وما أنا وهذه الأماني التي تتفيح في أعماقي من جديد مع الورد الناشيء، وتنطلق في عالمي مع الربيع الطلق، وتتألق في دنياي مع الزهر النير، وكنت حسبتني انصرفت من دنياي الكبرى لأعيش في دنيا الناس الضيقة، وخرجت من عالمي الفسيح لألقي هذا العالم المتقارب، وهجرت الأرض الخصبة ليدمى كفاي وقدماي بالفأس القاسية والأرض الغليظة. . . وما رجعتي إلى رؤاي هذه؟!. . . كانت لي معها ليال أزهى من النور وأوضح من الصبح. . . وأيام أنضر من الورد وأحلى من الربيع. . . لكأني أذكر الساعة أوديتها الخضر العامرة، وجنباتها الغر الزاهرة. . . وهذه الفضة فيها كالحصى. . . وهذا الصليل كالأمواه. . . وهذا الذهب المنتشر كأنه أوراق زهر الدراق. . . وذلك الزمرد الذي يطرز حواشيها كأنه أعشاب الجنة. . . لكأني أثب معها الساعة في تطواف بعيد، لا أحس له الجهد، ولا ألقى فيه العناء، ولا أكاد أمس الأرض إلا المس الهين الرقيق. . فأجوز السهل والجبل، وأمر بالهضبة والوادي، وأطوي البيد الفساح، ويحملني النهر على سرير ناعم من نسماته اللطاف، ويصوغ لي البحر فلكا طيعة من أمواجه الخفاف، وينشر لي الأفق بساطه المسجدي. . . أكان الجبل إلا السبيل المذلل المنقاد. . أكانت الصحاري إلا المسالك المذهبة المبسوطة؟ أكان العالم إلا جنة من السحر الحلال؟!

تلك ليال وأيام. . . ما أمرها، تطرقني مبكرة، وتسعى إلي هذا السعي الهادئ مع مولد الفجر. . . تنشر لعيني الصور، وتلقي في أذني الأحاديث، وتفجر في قلبي الأصم ينابيع متدفقة من الذكريات. . . أتراها تريد أن تفسد علي حياتي بالنعيم، وتثير مني عاطفتي بالذكرى، وتنال من بعضي ببعضي. . . أتراها تود أن تطفئ ظلماتي السود بمشاعلها المتقدة، وتخفت أنفاسي الخرس بأغانيها العذبة، وتطمس أنفاسي الباردة بأنفاسها المشتعلة؟

. . . وما أنا وهذه المواكب التي تتهادى من أمامي، وهذه الحسناء التي تنظر إلى. . . لكأني عشت معها دهراً طويلاً. . . أذكر. . . لقد كان بيني وبينها عهود! وكان لها في

<<  <  ج:
ص:  >  >>