عنقي ذمم، وكان لي في رقبتها وجائب. . . ثم. . . ألم تكن من بيننا فرقة، فتتاركنا على غير شيء. . . كأنما لم ترع طفولتي بالهدهدة الناعمة، ولم ترف على فتوتي ظلالها الهادئه، ولم تكسب في قلبي خمرها المسكرة. . . وكأن لم يكن بين دمشق والقاهرة أنيس، ولم يسمر في مرابع الجيزة سامر، ولم تهتف في دمشق هواتف، ولم تثر في الغوطة أصداء. . . فما بالها اليوم: هذه المواكب توحش صمتي السادر بالنشيد، وتفزع أمني القلق بالسلام، وتعشي عيني المظلمتين بالجمال، وتفسد علي مقامي الخشن بالموكب اللاهي؟!. . . أتراها تبتليني من جديد بسحرها العابث؟! تلك كواكب وأغان وأناشيد قد خلت. . . فما مثارها عندي اليوم، ومالي من موكب وأغنية ونشيد. . .؟
وهذه الذكريات التي تغزوني فتلح علي وتأخذني من بين يدي وخلفي. . . ما أنا وهي وقد استرقني حاضري، فإذا هو علي مطبق لا ينفرج، رتق لا ينكشف، ضيق لا يكاد يتسع لغير هذا الذي أنا فيه؟ وما أنا فيه إلا الآلة الصماء تغدو مطلع النهار مع الصباح لتعود في صفرة اليوم مع المساء، وتظل على ذلك تحرك في غير حراك، وتدور على غير حس، وتمضي وكأنما تدفعها يد قادرة إلى غير ما أحبت وما كانت تقدر أنها تحب. . . ما أنا وهذه الذكريات، تجد السبيل إلى كهفي العميق، ثم تتحسسني من بين هؤلاء المساكين الذين قدر لهم أن يعيشوا معي في هذا الكهف. كيف استطاعت أن تجوز هذه الأبواب الحديدية الضخمة، وأن تفلت من هؤلاء المردة الذين يحرسونها، وأن تبلغني فتمزق هذا الغشاء الصفيق الذي أسدلت بيني وبينها؟! ما شأنها، تملأ على جنبات هذا الكهف، في يديها البضتين هذه الأعواد الرقيقة المشتعلة ينتشر منها هذا الدخان اللطيف العطر الذي ينفث في روح الماضي. لكأنه هذا البخور الذي عهدته في ليالي الخاليات. إن سحبه لتتلوى هادئة رقيقة فتبدد كل ما حولي. لا الناس الهرالي الذين أعهدهم، ولا المتعبون الذين آلفهم، ولا هذه الأردية السود التي تتحرك إلى جانبي؛ وإنما هي أطياف حلوة كريمة، أحس كأنما كان من بيني وبينها سبب، ومغان رائعة بهيجة كأنما كان لي بها عهد. أتراها تود أن تلقف بسحرها الحائل هذا الواقع المتورد، وأن تطرد بأطيافها القاتمة هذه الأشباح الناعمة، وأن يذهب عطرها الهفاف بالحاضر المتماسك؟! أتراها تود أن تدير حياتها الأولى في حياتي الجديدة لتثير الأماني والأوهام؟! وهذه الأحلام التي تشق عني ظلمة الليل. . . ما أنا وهي.