ما أدركت روحي موته لأول منعاه لأنه يملؤها ويدفعها على محور من قلمه، ولا يزال شفق شمسه على آفاقها يسحب ذيوله في بطء، ولذلك استطعت أن أتلقى منعاه تلقي الخبير بالموت العالم بأنه شئ عادي يجب ألا تضج منه الأحياء بالشكوى والتفجع.
ثم أفقت دفعة واحدة منزعجاً على ضجة روحي وهي تتنزى من الألم وتتلوى تحت هول الفجيعة. . . فجيعة قلبي في صاحب حديثه، الكاتب الأصم الذي كان يسمع من هناك. . . مما وراء الأبعاد والحدود.، ثم يحدث
وفجيعة نفسي التي كانت تغتسل كل أسبوع بمداده الأسود المنير. . . وفجيعة قلمي العاجز في صاحب القلم المعجز الذي كان في يده كعصا سحرية يلعب بها تارة فيخايل (بالسحاب الأحمر) و (حديث القمر) ويكتب بها على (أوراق الورد)، ويضرب بها على قسوة القلوب فتنبجس للمساكين، ويسوق بها (تحت راية القرآن) نحو هدف الشرق الإسلامي أجيالاً جديدة هي مدينة له لا ريب بجزء كبير من الروح الذي يملؤها بفتنة المجد وسحر العزة ومرارة الجد، وبعث تاريخ الأبوة، والإيمان بالشرق والعروبة والإسلام إيماناً يحمل عليه الفن الساحر والروح الغامر الذي يستولي على القارئ ويتركه في غمرة لا يفيق منها إلا وقد انتقل إليه سر الكاتب، وسحر المكتوب.
وابتدأت جراح روحي تتسع وتستدمي وتنغل حتى توجعت واضطربت وراب أصدقائي من أمري شئ غريب، وصاح الألم ينادي القلم ليسعفه بالبلسم فيشيع الراحل العظيم ويسعى في جنازته الروحية على صفحات (الرسالة).
ولكن العاطفة إذا ثارت وفارت وهاج هيجها شلت جميع قوى العقل. وهاأنذا أجلس ساعتين لأكتب الكلمة التي أخفف بها عن نفسي، فلا أستطيع! مع إني ممتلئ بميراث الرجل وشخصيته وأدبه وحبه وأخباره.
وأشهد أن جميع ما في نفسي من الحزن يختفي حين أريد أن أدفعه عني في أجساد وصور من كلمات، وأن ما أريد أن أقوله يروغ مني وتزيغ حواسي دون مكمنه فلا أراه ولا أدركه. . . والأمر بعد للصمت وإن أتلف، وللدمع وإن أسعف.