للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[العامية والفصحى]

للأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني

أنا متهم بعدائي للغة العامية، وياما أكثر من في الحبس من مظلومين - كما يقول عامتنا في أمثالهم - ولست أريد الآن أن أدافع عن نفسي وأبرئها من شيء، فان لي الحق في المعاداة والمصافاة كغيري من الناس تبعاً لرائي وهواي، ولكنما أريد الآن أن أضع أموراً في مواضعها على قدر ما يتيسر لي ذلك.

الأمر في اللغة العامية أن نطاق الأداء بها محدود. وهي في هذا النطاق وافية بالحاجة وكافية جداً للأغراض التي تطلب بها ولكنها تخذلك إذا أردت أن تتجاوز هذا النطاق. أي أنها تصلح للحديث العادي والحوار في المسائل اليومية، وللعبارة بها عن الأَغراض المألوفة بين الناس عامة، فإذا أردت أن ترتقي بها عن هذه الطبقة وأن تتناول بها حديث العلم أو الأدب أو الفلسفة أو غير ذلك مما يجري هذا المجرى قصرت بك وعجزت عن الوفاء بهذه المطالب فتحتاج إلى لغة أخرى تستطيع أن تواتيك وتساعفك - لغة أخرى تكون أوفى وأزخر وأوفر مادة وأكثر عناصر، ولا لغة هناك لنا غير اللغة العربية الفصحى التي لا تعد العامية إلا لهجة مشتقة منها. وهذا شأن كل لغة عامية في الدنيا. وكل عامية تعجز عن أداء ما هو أكثر من المطالب العادية. وحدود كل لغة عامية هي حدود العامة أنفسهم، ونطاقها هو نطاقهم، فإذا احتجت إلى ما يجاوز نطاق العامة ويرتفع عن طبقتهم فانه لا يسعك إلا أن تلجأ إلى لغة أوسع من لغتهم وأغنى وأقدر. قد يقال ولكن في الدنيا عاميات ارتقت إلى مصاف اللغات الفصيحة كالإيطالية واليونانية الحديثتين. وهذا صحيح غير منكور. وفي وسع كل عامية أن تصبح هي لغة الكتابة والأدب والعلم والفلسفة وما إلى ذلك إذا وسعتها وضبطتها وأجريت الأمر فيها مجرى اللغات الصحيحة ذات الأحكام والضوابط، وأنجيتها من الفوضى التي تلازم العاميات في العادة. وهذا هو الذي حدث في اللغة الإيطالية الحديثة واللغة اليونانية الحديثة اللتين حلتا محل اللاتينية والإغريقية القديمتين. ومؤدي هذا أن العامية عندنا في صورها الحالية لا تصلح للأداء ولا لأن تتخذ لغة كتابة وأدب وعلم وفلسفة وغير ذلك لأنها فوضى وتحتاج إلى ضبط وإصلاح وتوسيع وإغناء. وقد قلت (في صورها الحالية) ولم أقل (في صورتها الحالية) وأنا أعني ما أقول،

<<  <  ج:
ص:  >  >>