فان عامية مصر غير عامية الحجاز أو العراق أو الشام أو تونس والمغرب على العموم أو السودان، ولكل بلد من هذه البلدان عاميته الخاصة، بل نحن في مصر لنا أكثر من عامية واحدة، فعامية القاهرة غير عامية الصعيد وغير عامية الإسكندرية أو الأقاليم الشمالية، فأي هذه العاميات كلها تريد أن تكون لغتك؟ ولكل منها خصائصها وعناصرها التي اقتضت طبيعة الحياة الخاصة بها أن تتألف منها. فعامية مصر أو عاميات مصر - فأنها كثر - فيها عناصر من العربية والفرعونية وعناصر من اللغات الأوربية بحكم موقع البلاد الجغرافي، وعامية العراق فيها عناصر من العربية والتركية والفارسية والهندية وغير ذلك، وهكذا
والعامية لا ثبات لها ولا استقرار. والملاحظ - والطبيعي أيضاً - أنها ترقى مع انتشار التعليم وتقترب شيئا ًفشيئا ًمن اللغة العربية. يدل على ذلك - إن كان الأمر يحتاج إلى دليل - أن حوار المتعلمين لا يكاد ينقصه من اللغة الفصحى إلا ضبط أواخر الكلمات أي بناء الكلام على معاني النحو؛ والعربية على عكس العامية أداة ثابتة على كثرة ما يطرأ عليها من التطور، وهي تتسع وتلين وتزداد صقلا على الأيام على خلاف العامية التي لا تثبت ولا تستقر بل تندمج في العربية بعد أن اشتقت منها وانفصلت عنها.
وهنا أنتقل إلى نقطة أخرى أود أن تتقرر في الأذهان؛ وتلك أن العامية ليست لغة أجنبية وإنما هي لغة عربية محرفة، فهي بنت العربية وصلتها بها وثيقة كما هو الحال في كل عامية بالقياس إلى اللغة الصحيحة. وكثيرون منا ينظرون إليها غير هذه النظرة، فإذا كتبوا أو خطبوا اتقوها جداً وخافوا منها وتحاموها ونفروا من كل لفظ مستعمل فيها، وبهذا يباعدون مباعدة شديدة غير نافعة بين الكاتب والقارىء، وهذا خطأ فان العامية كما قلت بنت العربية وفرع منها، وإذا ما نظر الإنسان إلى العامية هذه النظرة ألقى فيها كنوزاً ونفائس لا تقوم، وأغناه ما يجد فيها عن كثير مما يلتمسه ولا يهتدي إليه، أو يهتدي إليه ولكنه لا يكون في الأكثر والأعم إلا نابياً ثقيلا مستكرها ًفي السماع أو منفراً من العربية نفسها. وقد كنت كغيري أتقي كل لفظ مما يجري على ألسنة العامة لتوهمي أن ما يجري على ألسنتهم لا يمكن أن يكون عربياً صحيحاً، ولكن مطالب التعبير والأداء أحوجتني إلى البحث عن مفردات كثيرة فالتمستها في كتب الأدب ومعاجم اللغة، فأما المعاجم فقليلة الغناء