سار (موكب الرؤية) من (مركز البندر) في صفين طويلين من الجنود المشاة تتقدمهم فرقة الموسيقى في شتى آلاتها وشاراتها، وتتلوهم طوائف الصوفية في مختلف هيئاتها وإشاراتها، وعشاق رمضان محتشدون على جوانب الطرق وفي طنوف المنازل يجتلون الموكب المهيب ووجوههم يشرق فيها السرور كأنما يستقبلون وافداً من الملأ الأعلى سيغمرهم بالسرور ويطهرهم بالنور ويزكيهم بالبركة. فلما أتم الموكب خطاه الوئيدة الموزونة تفرق، واجتمع الناس على شاطئ النيل يرتقبون بشرى المحكمة بطلعة الهلال الوليد! ولرمضان في رأي الريفيين هلال غير أهلة الشهور، يولد من نور الجنة، ثم يدرج في رياض الشفق دروج الطفل المدلل الموموق، حتى إذا أيدر واستحار شبابه تردد كل يوم بين المشرق والمغرب في موكب ذاكر من كرام الملائكة، يختلط فيه تسبيح القائمين بذكر الصائمين، ويمتزج فيه سلسل النور بسليل الطين؛ وتلك هي الأيام المباركة التي تتصل فيها السماء بالأرض من كل سنة
وهلال رمضان في لغة الريفيين هو رمضان نفسه. لذلك يتخيلونه رجلاً له حياته وعمره وأجله. فإذا لم يبق منه إلا ربعه الأخير تمثلوه في محفته السماوية محتضراً يعالج غصص الموت بين أناشيد الحور وصلوات الملائكة، فيندبونه في البيوت والمساجد، ويرثونه على السطوح والمآذن، ويبكونه يوم الجمعة اليتيمة أحر بكاء!
قصفت المدافع المصرية في كل محافظة وفي كل مديرية في لحظة واحدة وعلى فترات محددة، فأفتر البشر على الشفاه، وجرت التهنئات على الألسن، واستولى على المنصورة شعور نقي هادئ خاشع لا يصدر عنه إلا الكلم الطيب والعمل الصالح. ورمضان يرجع المسلم الصادق نقياً كقطرة المزن، طاهراً كقطرة الوليد، لا ينغمس في منكر، ولا يخف إلى شر، ولا يلغو في حديث، ولا يبغي في خصومة. ومن ذلك كان كل حي سعيداً في رمضان، ما عدا الرومي والشيطان!
كان في كل طلقة من طلقات المدفع المبشر تنبيه إلى فضيلة من فضائل الصوم. فالمؤمن حين دوى في سمعه صوت البارود تيقظت في نفسه نوازع الخير ففكر في توثيق ما وهن