(في القلب تعيش الأرواح الحبيبة الخالدة التي لا تَفنَى وفي القَلبِ تُحْفَرُ القبورُ العزيزة التي لا تُنسى)
هكذا قلت (وعواطفي تشيِّع الميت الحبيب مطرقة صامتة) واليوم ماذا أقول؟ أما إنك لتعلم - أيها الحبيب - أن الذي بيني وبينك دنيا تمشي الأحزان في أرجائها نائحة باكية. . . لستُ أكفر بأنعم الله عليَّ أو عليك. . .، كلا، كلا!! لقد ذهبتَ إلى ربك راضياً مرضياً فرحاً بلقائه، مؤمناً بما زَّين في قلبك من الإيمان، وبقيتُ أنا لأبحث عن أحبابي بعدكَ،. . . لأفقِد لذَّة المعرفة التي يفيض فيضها من الصداقة والحب،. . . . لأتلدَّدَ هاهنا وهاهنا حائراً أنظر بمن أثق،. . . لأجدَ حَرَّةَ القلب وكَمد الروح وألمَ الفكر من حبي وصداقتي،. . . لأسير في أوديةِ من الأحزان بعيدة: أمشي وحدي، وأبكي وحدي، وأتألمّ وحدي. . . لا أجدُ من أنفُضُ إليه سرَّ أحزاني،. . .
ذهبتَ وبقيتُ. . . لأتعلَّم كيف أُنافق بصداقتي بعضَ النفاق لأنهم يريدون ذلك. . . لأُجيد مهنة الكذب على القلب لأنهم يجيدون ذلك،. . . . لأتعلَّم كيف أنظر في عيونهم بعينين لئيمتين يلتبس في شعاعهما الحب والبغض، لأنه هو الشعاع الذي يتعاملون به في مَوَداتهم،. . . لأفْنِيَ بقائي في معانيهم المتوحشة إذ كانوا هكذا يتعايشون،. . . لأحطم بيدي بنيان الله الذي أَمرنا بحياطته، وأتعبد معهم للأوثان البغيضة الدميمة التي أنشأتها أيديهم المدنسة القذرة،. . . لأجنِي الثمار المرّة التي لا تحلو أبداً ولكنهم يقولون لي: هذا ثَمَرٌ حُلْوٌ، فلماذا لا تأكل كما يأكل الناس؟
ذهبت - أيها الحبيب - وبقيت. . .، في الحياة التي أولها لذةٌ وآخرها لذْعٌ كأحرِّ ما يكون الجمر حين يتوهج، بقيتُ للحياة التي تريد أن تسلبَ القلبَ براءةَ الطفولة لنملأه إثماً وخداعاً وشهوةً. . . بقيتُ على الحياة في الأرض التي تميد وترجف وتحتدم من تحتي، لأنها تنكر الإيمان الذي يمد بسبب إلى السماء. . . بقيتُ بقاءَ حبة القمح في رمال الصحراء المجدبة لا أجد مائي ولا تربتي. . . ولا من يزرَعُني. . .