للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[ظاهرة وتعليلها]

للأستاذ أحمد أمين

أعرفه غزير العلم واسع المعرفة، ولكنه يأبى أن يجالس أمثاله من العلماء، ولا يلذه إلا أن يجالس لفيفاً من صغار الناس في مهنتهم وعقليتهم؛ وليس الشراب هو الذي يجمعهم ويؤلف بينهم كما هو الشأن في كثير من الأحيان.

واعرفها فتاة على جانب من الجمال، ولكنها لا تؤمن بجمالها، لأن أهلها ادخلوا في روعها من صغرها أن الجمال في البياض والحمرة والشعر الأصفر، وهي سمراء شديدة السمرة وليس في وجهها حمرة ولا في شعرها صفرة، فهي في اعتقادها ليس لديها من الجمال شيء، وأراها تصاحب فتاتين ليس فيهما من الجمال شيء، وتأبى أن تصاحب جميلة، وخاصة إذاكان جمالها في لونها الأبيض المشرب بحمرة.

وأعرفه فناناً كبيراً، ولكنه يأبى أن يجالس الفنانين الكبار أمثاله ويفضل أن يجلس إلى مبتدئي الفن يعلمهم ويصلح من أخطائهم، وهم من جانبهم يتملقونه، ويفيضون عليه من ألقاب الثناء ما يملؤه غبطة وسروراً.

وأعرف عشرات من هذه الأمثلة أشاهدها كل يوم، وأسمع بها كل حين وأقرأها في وصف كثير من الرجال والنساء، فما سرها؟

سرها عندي أن من طبيعة الإنسان أنه يكره (الضعة) ويكره كل ما يشعره بالضعة، ويحب العظمة ويحب كل ما يشعره بالعظمة.

من أجل هذا تراه - في العادة - يكره أن يجالس من هو خير منه في علمه وفنه وأدبه، لأن ذلك كله يشعره بصغر نفسه؛ وهو أقل كراهية لمجالسة من هو مثله، لأنه لا يحط من شأن نفسه؛ وهو أشد حبا لمجالسة من دونه لأن ذلك يجعله أكثر شعوراً بعظمة نفسه

ويمكن تطبيق ذلك على كثير من الأحداث اليومية والمشاهدات المألوفة. ألست ترى أن (حلبة الكميت) أو جمعية الشراب تكره كل الكراهية أن يكون بينهم وقت شرابهم من لا يشرب، ويستثقلونه مهما ظرف، ويستسمجونه مهما لطف، لأنه يذكرهم بالفضيلة حين ارتكابهم الرذيلة، ويشعرهم بأنهم الوضعاء وهو الرفيع، وأنه العين الناقدة وأنه الرقيب عليهم، وأنه العاد لسقطاتهم، وأنه المحتفظ بقوة إرادته عن ضعف إرادتهم؟ كل هذا يشعرهم

<<  <  ج:
ص:  >  >>