قلت لصاحبي: ما بال هذا الفتى يصعر خده في كبر ويتطاول في صلف، وينظر إلى هذا الناس في احتقار كأنه يرمق بعوضة ضاوية عرجاء؛ ثم هو يتأنق في زينته ويزهى في إهابه؛ على حين أنه ما برح في أول الطريق لم يبلغ الغاية التي تصبو إليها نفس، ولا سما إلى المنزلة التي يفرح بها قلب.
فهمهم صاحبي في أسى كأنما يحدث نفسه: آه لو انشق عنه أعاب الإنسان لرأيت من خلاله صورة كلب! إن الإنسانية - يا أخي - حين تتهاوى تسل فتتضع فتنحط إلى أوضع مراتب الحيوانية!
قلت: وماذا عسى أن يكون شأنه؟
قال: إن له لقصة فيها عبرة للعقل وعظة للقلب.
فقلت: هاتها.
قال: آه لو رأيت هذا الفتى وهو صبي في فجر الحياة يضطرب في دار عمه، يفتش في زواياها عن حنان الأم فلا يجده، ويبحث في أركانها عن عطف الأب فلا يلمسه، لأنهما ماتا عنه طفلا وخلفاه بين يدي عمه. وشعر الصبي - منذ أول العمر - بأن الحياة خاوية من الرحمة خالية من الشفقة، لا تنبض بالسعادة ولا تخفق باللذة، فنزل عن طفولته كارها، وعاش في دار عمه حيناً من الزمان، وعمه رجل فيه قسوة الطبع وجفاء الخلق، يحس وطأة الضيق ويستشعر شظف العيش، ومن ورائه أولاده يستحثونه إلى غاية فهو يستل قوتهم من برائن الفاقة في جهد، وينتزع اللقمة الجافة من مخالب الفقر في كد، وهولا يرى في أبن أخيه إلا عالة تثقل كاهله وتكثر من عياله، فرماه بالجفوة واخذ بالعنف. وسرى داء الأب إلى أبنائه فتدافعوا إلى أبن عمهم يقذفونه بالسباب ويلطمونه بالقسوة، يدعونه عن لطعام ويدفعونه إلى العمل، فعاش عبداً بين سادة غلاظ شداد يتمنى الخلاص فلا يبلغه،