ويرجو المفر فلا يناله، وإن في قلبه أسى يسلبه القرار، وإن في نفسه ذله ترغمه على الصبر.
وأحس الصبي بالضوى من أثر الجوع، وشعر بالضنى من أثر الإرهاق، وأصابه الكلال من شدة الغلظة، فانطوى على كراهية تؤج في صدره، وانضم على مقت أبنائه مقتاً ينفث فيه روح الشر والانتقام، ثم عقد العزم على أمر وإلى جانبه صبي في مثل سنه يعينه على شأنه ويزين له الرأي ويسول له أن يطيرا معاً إلى غير غاية.
وعند مطلع الفجر هب الرجل - كدأبه - ينادي أبن أخيه، عبد الدار، ليقذف به - كشأنه أبداً - في غمرة العمل الشاق العنيف، فما راعه إلا أن يرتد إليه صدى صيحاته ثم يتلاشى في سكون الدار. وأزعجه أن يرى الصبي العاق يصم أذنيه عن ندائه لأول مرة في حياته، فأندفع يزمجر يريد أن يبطش بالصبي اليتيم، غير أن الصبي كان قد فر من بين يديه الغليظتين، فثارت ثائرته وأضطرم غضبه على أن ينفلت الطير من شباكه وهو يرى ولا يستطيع أمراً.
وأحس الأسير الذي ولد مكبلاً في قيود ثقال. . . أحس بالحرية التي لم يتذوقها أبداً فأنطلق يشدو ويثب ويضحك وإلى جانبه صاحبه يشاركه نوازع نفسه الطروب، ويشاطره أفراح قلبه الغض
وهبط الصبي القاهرة - بعد أيام - فتاه في لجة المدينة، وتقاذفته أمواج الحياة، لا يستقر في مكان ولا يهدأ إلى عمل، ثم ساقه الحظ إلى دار سيد من ذوي الثراء والجاه، فراح يقلب ناظريه فيما حواليه من رواء وأناقة وقد خلبته أبهة المكان وسحرته روعة الدار وأذهلته هيبة العظمة، فامتلأت نفسه رهبةً وخشوعاً. ووقف أمام سيده، سعادة البك، فاضطربت روحه من خوف، وارتعدت فرائصه من فرق، وتلجلج لسانه من فزع، ورأى البك الصبي القروي يوشك أن يتناثر من رعب فهم من مجلسه يريد أن يهدئ من روعه؛ ولكن خيل للصبي أنه هم يبطش به حين آذاه ما سيطر عليه من ارتباك وخوف، ففزع خشية أن يصفعه السيد في غلظة مثلما كان يصفعه عمه من قبل، فزلت قدمه فهوى فأنطرح على الأرض؛ فابتسم سعادة البك لما رأى، ثم أخذ يسكن من جأشه بكلمات فيها الرقة والعطف حتى أفرخ روعه واطمأنت نفسه. لقد شهد الصبي - إذ ذاك شيئاً لم يره أبداً فقال لنفسه (يا