للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عجباً! أفي الناس رجل يعطف علي أنا الضائع المسكين؟ لطالما شعرت بأن العالم كله لا ينضم إلا على خشونة الطبع وجفاء الخلق ودنس النفس أشياء لمستها في عمي الفظ الغليظ!

واندفع الصبي في عمله يتوثب نشاطاً ويتألق إخلاصاً، لايني عن الطاعة ولا يتريث عن الخضوع، حتى رضى سيده واطمأن فحصه بفضل عنايته وشمله بفيض من عطفه، فسرت سمات الحياة في عروقه، وتوهجت علامات العافية في وجهه، وانسربت معاني الصحة في دمه، فبدا وثيق الأركان صلب العود جياش الحركة خفيف الظل.

ورأى البك في الصبي القروي شمائل حببته إليه وقربته منه، فعهد إليه أن يحرس أبنه الأوحد في غدواه ورواحه ليدفع عنه الأذى ويصد عنه السوء. وأبن سعادة البك واهي القوى من الترف، مضعضع العصب من دلال، رخو العود من رخاء، مسلوب العزم من رفاهية.

ثم تغالي السيد فألحق القروي وأبنه المرفه في مدرسة واحدة ليدرأ واحد عن واحد شر التلميذ وعادية المدرسة، فانطلقا معاً والخادم يتبع سيده في ريث ويقلب البصر في لباسه الإفرنجي الأنيق يتيه في زهو ويتخلع في خيلاء وهو لا يكاد يصدق أنه قذف عن كاهله أعباء الريف وشقاء الحقل ليكون أفندياً يتأنق في زيه ويختال في أبهته. . .

وانطوت السنون فإذا الصبي القروي ينكب على الدرس في نهم لا يهمل ولا يتمهل فيسبق أقرانه في سهولة ويسمو على أترابه في يسر. وإذا أبن النعمة يتراخى من ضعف وينحط من كسل فيتخلف عن الركب فيبغض المدرسة ويمقت الكتاب ويحتوي القراءة، ثم يندفع في شبابه الأول ليرتدغ في أسباب له والعبث وسبله من أمامه معبدة ميسرة، ثم ينصرف عن المدرسة إلى غير رجعة

ورأى البك فرق ما كان بين أبنه الغض الجميل وبين أبن القروي الفض الغليظ، فغاضه أن يسبق الخادم سيده، وأن يسمو الوضيع على الرفيع، فتكشفت إنسانيته الرقيقة عن حيوانية جارفة تصفع الخادم وقد شب ونما غرسه وشدا طرفاً من العلم. . . تصفعه فتذيقه فنون من القسوة والغلبة، ثم تجذبه من المدرسة إلى الدار، ثم تدفعه من الدار إلى الشارع

واستحالة صورة البك، السيد الطيب الرقيق. . . استحالة صورة - في لمحة واحدة - في

<<  <  ج:
ص:  >  >>