للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عيني الفتى القروي إلى صورة بغيضة إلى نفسه كريهة إلى قلبه، هي صورة عمه الفظ يوم أن كان يذيقه فنوناً من القسوة والغلظة في غير ذنب ولا جريرة

الآن، بدا للفتى القروي أن العالم كله لا ينضم إلا على خشونة الطبع وجفاء الخلق ودنس النفس، أشياء لمسها - زمان - في عمه الفظ الغليظ.

وتاه الفتى القروي مرة أخرى في لجة المدينة - وتقاذفته أمواج الحياة، ولكنه لم يلق السلم وفي نفسه أن يسعى ليكون في مثل ما كان فيه من نعمة وترف في دار سيده. ولم لا! وهو قد سبق ابنه في الدرس وغلبه في التحصيل وفاز عليه في العلم، فراح يفتش عن عمل يسد به رمقه ولا يحول بينه وبين المدرسة.

وذاق الفتى بين عمله الجديد وبين المدرسة. . . ذاق مرارة الضيق ولذغ الحرمان، ليرضى بالقليل ويقنع بالتافه ويصبر على الشدة، ومن أمامه أمل جياش يفعم صدره فيصرفه عن بعض ما يقاسي من فاقة وشظف، فأندفع إلى غايته في غير هوادة ولا لين

واشتاقت نفسه إلى لقمة طرية ناعمة، فأخذ يدخر من عوز ويوفر من فقر، حتى جمع - في أيام - قروشاً اشترى بها قطعة من لحم لا تغني من جوع ولا تسمن من غثاثة - غير أنها بعثت في نفسه روح البهجة والطرب، فأنطلق إلى حجرته الضيقة المظلمة، يطهوها بنفسه لنفسه وفي قلبه السعادة والغبطة وفي روحه اللذة والفرج. وامتلأت الحجرة بروح الشواء وروح المرح في وقت معاً

يا للعجب! إن قطعة من اللحم لا تشبع طفلا قد أترعت حياة الفتى المحروم اللذة والسعادة!

وأعد الفتى لنفسه مائدة شهية لا تنضم إلا على قطعة من اللحم ورغيف واحد، ثم أخذ يمتع نفسه بالنظر إليها حيناً وينسم ريحها العبق حيناً أخر، فما أفاق إلا على قط فظ غليظ ينقض عليها فيلتهمها دفعة واحدة، فهب الفتى المحروم من مكانه مذعوراً ثائراً يقذف الحيوان الشره بما حواليه في غير وعي ولا عقل.

ورأى الفتى غريمه ملقى على الأرض يصرخ من شدة الألم فأندفع إليه في غيظ يشد وثاقه وفي رأيه أنه قد سلبه متعة نفسه وحرمه لذة بطنه. ثم سيطر عليه جنون الشهوة. . . الجنون الذي بعث فيه روح الشر والانتقام من حيوان ضعيف، الجنون الذي نزع عنه ثوب الإنسانية الرقيق ليتبدى في أوضع مراتب الحيوانية. ووضع الفتى المحروم القط الضعيف

<<  <  ج:
ص:  >  >>